Success Habits
Transform Your Home Into a Cash Machine

1 – كِتَابُ الْإِيمَانِ ” الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

﴿ كتاب الإيمان ﴾
۞۞۞۞۞۞۞

1 – كِتَابُ الْإِيمَانِ ” الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
**********
” 2 – «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ: ” الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا “.
قَالَ: صَدَقْتَ.
فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ.
قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ.
قَالَ: ” أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَالَ: ” مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ” قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا.
قَالَ: ” أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ.
قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: ” يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: ” فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
1 – كِتَابُ الْإِيمَانِ الْكِتَابُ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُتُبِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، أَوِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَعْنَى هَذَا مَجْمُوعٌ، أَوْ مَكْتُوبٌ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا عَنْوَنَ بِهِ مَعَ ذِكْرِهِ الْإِسْلَامَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الشَّرْعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنَ الْفَرْقِ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْفَصْلِ، وَقَدَّمَهُ لِزِيَادَةِ شَرَفِهِ فِي الْفَضْلِ، وَلِكَوْنِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي مَعَهُ أَمْنٌ، وَطُمَأْنِينَةٌ لُغَةً، وَفِي الشَّرْعِ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مِمَّا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، فَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْعَلُ بِهِ نَفْسَهُ آمِنَةً مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ، أَوْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَالْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ إِفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ يُقَالُ: أَمِنْتُ وَآمَنْتُ غَيْرِي، ثُمَّ يُقَالُ آمَنَهُ إِذَا صَدَّقَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَمِنْتُ صِرْتُ ذَا أَمْنٍ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] وَقَدْ يُضَمَّنُ مَعْنَى اعْتَرَفَ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ نَحْوَ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ أَوَّلُهَا: عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِيمَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ تَفْصِيلًا فِي الْأُمُورِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِجْمَالًا فِي الْإِجْمَالِيَّةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا، وَلَوْ لِغَيْرِ دَلِيلٍ حَتَّى يَدْخُلَ إِيمَانُ الْمُقَلِّدِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ عَدَمِ صِحَّتِهِ رُدَّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَنَحْوَ الصَّلَاةِ فَإِنْ جَوَّزَ وُرُودَ شُبْهَةٍ تُفْسِدُ اعْتِقَادَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ لَكِنَّهُ فَاسِقٌ بِتَرْكِهِ النَّظَرَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – قَبِلَ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ تَفَحُّصٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ فِي كَوْنِهِ فَاسِقًا بِتَرْكِهِ النَّظَرَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ فُهِمَ مِنْ قَيْدِ مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَمِنَ الضَّرُورَةِ أَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِذَاتِهِ، أَوْ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، أَوْ مَرْئِيًّا لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ إِجْمَاعًا، وَمِنَ الْجَزْمِ أَنَّ التَّصْدِيقَ الظَّنِّيَّ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ مَعًا فَقِيلَ: الْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ لَا لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ، وَرَبِّهِ.
قَالَ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَالْأَشْعَرِيُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بَلْ زَائِدٌ، وَمِنْ ثَمَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْعَجْزِ، وَلِهَذَا مَنْ صَدَّقَ وَمَاتَ فَجْأَةً عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ إِجْمَاعًا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَشَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الْآيَةَ.
حَيْثُ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَطَالِبِ.
وَبِهَذَا يَلْتَئِمُ الْقَوْلَانِ.
وَالْخِلَافَانِ لَفْظِيَّانِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ النُّطْقِ كَالْمَعَاصِي الَّتِي تُجَامِعُ الْإِيمَانَ، فَهُوَ بِظَاهِرِهِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِقْرَارَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَا شَرْطًا، وَلَا شَطْرًا.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ مَعَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْخَوَارِجِ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ مُؤْمِنٌ، وَلَا كَافِرٌ، بَلْ يُقَالُ لَهُ فَاسِقٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَالْخَوَارِجُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَاسِقٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قَالُوا: وَلَا تَظْهَرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابَ الزَّوَاجِرِ مِنْ كَمَالِ الْإِيْمَانِ اتِّفَاقًا لَا مِنْ مَاهِيَّتِهِ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نُقْصَانِ الْإِيمَانِ، وَزِيَادَتِهِ، وَكَذَا اقْتِرَانُ الْإِيمَانِ بِالْمَشِيئَةِ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ، أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَذَا التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْمَلَكِ، وَالْبَشَرِ، وَمَحَلُّ بَسْطِ هَذَا الْمَرَامِ كُتُبُ الْكَلَامِ.

✩✩✩✩✩✩✩

Simple Habits of Greatness

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
**********
2 – (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ) : أَصْلُهُ بَيْنَ فَأُشْبِعَتِ الْفَتْحَةُ فَقِيلَ بَيْنَا.
وَزِيدَتْ مَا فَقِيلَ بَيْنَمَا، وَهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ بِمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، وَيُضَافَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَارَةً، وَإِلَى الْفِعْلِيَّةِ أُخْرَى، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ فِي إِذْ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَقْتَ حُضُورِنَا فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ! فَاجَأَنَا وَقْتُ طُلُوعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَبَيْنَا ظَرْفٌ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ، وَإِذْ مَفْعُولٌ بِهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] أَيْ: وَقْتُ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَجَاءُوا وَقْتَ الِاسْتِبْشَارِ.
فَنَحْنُ: مُبْتَدَأٌ، وَعِنْدَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَذَاتَ يَوْمٍ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ عِنْدَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، أَيْ: بَيْنَ أَوْقَاتٍ نَحْنُ حَاضِرُونَ عِنْدَهُ، فَنَحْنُ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ ظَرْفِيَّةٍ، وَالْمَجْمُوعُ صِفَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، وَزِيَادَةُ ذَاتَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّجَوُّزِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْيَوْمِ مُطْلَقُ الزَّمَانِ لَا النَّهَارُ كَمَا فِي قَوْلِكَ: رَأَيْتُ ذَاتَ زَيْدٍ، وَقِيلَ ذَاتَ مُقْحَمٌ، وَقِيلَ بِمَعْنَى السَّاعَةِ، وَقِيلَ بَيْنَ يُضَافُ إِلَى مُتَعَدِّدٍ لَفْظًا كَقَوْلِكَ: جَلَسْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ، أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِكَ جِئْتُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَإِذَا قُصِدَ إِضَافَتُهُ إِلَى جُمْلَةٍ يُزَادُ أَلِفٌ، أَوْ مَا عِوَضًا عَنِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا بَيْنَ، وَقِيلَ فَائِدَةُ الْمَزِيدَتَيْنِ إِنَّمَا هِيَ التَّهَيُّؤُ لِدُخُولِ الْجُمْلَتَيْنِ، وَيَجُوزُ دُخُولُ إِذْ فِي جَوَابِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ كَمَا فِي الشِّعْرِ الْفَصِيحِ: وَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ مَجِيئِهِ إِلَى مَا بَعْدَ إِنْزَالِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ تَقْرِيرُ أُمُورِ الدِّينِ الَّتِي بَلَّغَهَا مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِتُغْبَطَ، وَتُضْبَطَ، وَقِيلَ مَجِيئُهُ كَانَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ قُبَيْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ! قَالَ: (سَلُونِي) فَهَابُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْدَةَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَخْطُبُ أَيْ: يَعِظُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ كَانَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ كَانَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – يَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ فَطَلَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنْ يَجْعَلَ لَنَا مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ قَالَ: فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا أَيْ: دِكَّةً مِنْ طِينٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكُنَّا نَجْلِسُ بِجَنْبِهِ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْعَالِمِ الْجُلُوسُ بِمَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ مُخْتَصٍّ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الطُّلُوعُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ مِنْ كَمَالِ النُّورِ مُسْتَعَارٌ مِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَالتَّنْوِينُ فِي رَجُلٍ لِلتَّعْظِيمِ، وَيُحْتَمَلُ التَّنْكِيرُ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ حِينَ رِوَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِأَنَّهُ جِبْرِيلُ لَكِنَّهُ حَكَى الْحَالَ الْمَاضِيَةَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ لَهُ أَنْ يَقْتَدِرَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّشَكُّلِ مِمَّا شَاءَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِيَارِ شَكْلِ الْبَشَرِ الِاسْتِئْنَاسُ لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ، فَالْمَعْنَى رَجُلٌ فِي الصُّورَةِ إِذْ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ مَعْلُولٌ بِأَنَّهُ وَهْمٌ مِنْ رِوَايَةٍ لِقَوْلِ عُمَرَ الْآتِي.
وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ.
نَعَمْ كَانَ غَالِبًا يَتَمَثَّلُ بِصُورَةِ دَحْيَةَ لِكَمَالِ جَمَالِهِ.
(شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ) : بِإِضَافَةِ شَدِيدٍ إِلَى مَا بَعْدَهُ إِضَافَةً لَفْظِيَّةً مُفِيدَةً لِلتَّخْفِيفِ فَقَطْ صِفَةُ رَجُلٍ، وَاللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّجُلِ.
أَيْ: شَدِيدٌ بَيَاضُ ثِيَابِهِ شَدِيدٌ سَوَادُ شَعْرِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْوِينِ فِي الصِّفَتَيْنِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ، وَرَفْعِ مَا بَعْدَهُمَا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْبَيَاضِ، وَالنَّظَافَةِ فِي الثِّيَابِ، وَأَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوَانُ الشَّبَابِ لِقُوَّتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَائِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَعَلُّمِ أَدَائِهِ، وَقَدَّمَ الْبَيَاضَ عَلَى السَّوَادِ لِأَنَّهُ خَيْرُ الْأَلْوَانِ، وَمُحِيطٌ بِالْأَبْدَانِ، وَلِئَلَّا يَفْتَتِحُ بَغْتَةً بِلَوْنٍ مُتَوَحِّشٍ، وَجَمَعَ الثِّيَابَ دُونَ الشَّعْرِ إِشْعَارًا بِأَنَّ جَمِيعَهَا كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ مَحْمِلُ الشَّعْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَالشَّعَرُ بِفَتْحَتَيْنِ أَفْصَحُ مِنْ سُكُونِ الثَّانِي، وَيُضَمُّ مَعَهُ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ) : رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْغَائِبِ، وَرَفْعِ الْأَثَرِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ وَالْأَشْهَرِ، وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ، وَنَصْبِ الْأَثَرِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ صِفَةٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْآثَارِ ظُهُورُ التَّعَبِ، وَالتَّغَيُّرِ، وَالْغُبَارِ، وَالسَّفَرُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّفْرِ، وَهُوَ الْكَشْفُ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ أَحْوَالَ الرِّجَالِ، وَأَخْلَاقَهُمْ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْأَعْمَالِ.
(وَلَا يَعْرِفُهُ) : عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ (مِنَّا) أَيْ: مِنَ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَجْلِسِ قُدِّمَ لِلِاهْتِمَامِ عَلَى قَوْلِهِ: (أَحَدٌ) : وَقَالَ أَبُو الْفَضَائِلِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمِصْرِيُّ الْمُشْتَهِرُ بِزَيْنِ الْعَرَبِ فِي شَرْحِهِ لِلْمَصَابِيحِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِلَّا فَالرَّسُولُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَدْ عَرَفَهُ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى غَابَ جِبْرِيلُ كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ، وَالْمَعْنَى تَعَجَّبْنَا مِنْ كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِهِ، وَتَرَدَّدْنَا فِي أَنَّهُ مِنَ الْمَلَكِ، أَوِ الْجِنِّ إِذْ لَوْ كَانَ بَشَرًا مِنَ الْمَدِينَةِ لَعَرَفْنَاهُ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا لَكَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهَا، ثُمَّ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَنِّهِ، أَوْ إِلَى صَرِيحِ قَوْلِ الْحَاضِرِينَ، وَالثَّانِي أَوْلَى فَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ هَذَا كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ.
(حَتَّى جَلَسَ) : غَايَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ طَلَعَ أَوَّلَهُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى أَتَى أَيْ: أَقْبَلَ، وَاسْتَأْذَنَ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي صُورَةِ شَابٍّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَعَلَيْكَ السَّلَامُ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْنُو» فَقَالَ: (ادْنُ) فَالتَّقْدِيرُ دَنَا حَتَّى جَلَسَ مُتَوَجِّهًا أَيْ: مَائِلًا (إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَالْجُلُوسُ، وَالْقُعُودُ مُتَرَادِفَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ التُّورَبِشْتِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقُعُودَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسَ مَعَ الِاضْطِجَاعِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلِيُّ، أَوِ الْغَالِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَمَا يَجْلِسُ أَحَدُنَا لِلصَّلَاةِ، وَقَوْلُ زَيْنِ الْعَرَبِ أَيْ: جَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ، أَوْ مَعَهُ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ،) أَيْ: رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَالْأَدَبِ، وَإِيصَالُ الرُّكْبَةِ بِالرُّكْبَةِ أَبْلَغُ مِنَ الْإِصْغَاءِ، وَأَتَمُّ مِنْ حُصُولِ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَكْمَلُ فِي الِاسْتِئْنَاسِ، وَأَلْزَمُ لِمُسَارَعَةِ الْجَوَابِ، وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ السَّائِلِ، وَإِذَا عَرَفَ الْمَسْئُولُ حَاجَتَهُ، وَحِرْصَهُ اعْتَنَى، وَبَادَرَ إِلَيْهِ (وَوَضَعَ كَفَّهُ) أَيْ: كَفَّيِ الرَّجُلِ (عَلَى فَخِذَيْهِ،) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي الْقَامُوسِ الْفَخِذُ كَكَتِفِ مَا بَيْنَ السَّاقِ، وَالْوِرْكِ مُؤَنَّثٌ كَالْفَخْذِ، وَيُكَسَّرُ أَيْ: فَخِذَيِ الرَّجُلِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَيْئَةِ الْمُتَعَلِّمِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ، أَوْ عَلَى فَخِذَيِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتِي النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى مَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلتَّقَرُّبِ لَدَيْهِ، وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَقَصَرَ النَّظَرَ عَلَيْهِ (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ!) : قِيلَ: نَادَاهُ بِاسْمِهِ إِذِ الْحُرْمَةُ تَخْتَصُّ بِالْأُمَّةِ فِي زَمَانِهِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَلَكٌ مُعَلِّمٌ، وَيُرِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] إِذِ الْخِطَابُ لِلْآدَمِيِّينَ فَلَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ قُصِدَ بِهِ الْمَعْنَى الْوَصْفِيُّ دُونَ الْمَعْنَى الْعِلْمِيِّ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ نِدَاءِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِاسْمِهِ فَذَاكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ آثَرَهُ زِيَادَةً فِي التَّعْمِيَةِ إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يُنَادِيهِ بِهِ إِلَّا الْعَرَبِيُّ الْجِلْفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ نِدَائِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِاسْمِهِ، قِيلَ: وَلَمْ يُسَلِّمْ مُبَالَغَةً فِي التَّعْمِيَةِ، أَوْ بَيَانًا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، أَوْ سَلَّمَ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ الرَّاوِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا سَبَقَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَمَنْ ذَكَرَهُ مُقْدَّمٌ عَلَى مَنْ سَكَتَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ.
نَعَمْ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلدَّاخِلِ أَنْ يَعُمَّ بِالسَّلَامِ، ثُمَّ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِالْكَلَامِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَالَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ إِنَّمَا فِيهِ الْإِفْرَادُ، وَهُوَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ.
أَقُولُ: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ الظَّاهِرِ مِنْ إِيرَادِ الْجَمْعِ إِرَادَةَ التَّعْظِيمِ لَا قَصْدَ التَّعْمِيمِ فَكَأَنَّ الْقُرْطُبِيَّ جَعَلَهُ نَظِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فِي كَوْنِ الْخِطَابِ خَاصًّا، وَالْحُكْمِ عَامًّا (أَخْبِرْنِي) أَيْ: أَعْلِمْنِي، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلِاسْتِدْعَاءِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْعُلْوِيَّةِ (عَنِ الْإِسْلَامِ) : وَهُوَ لُغَةً الِانْقِيَادُ مُطْلَقًا، وَشَرْعًا الِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ بِشَرْطِ انْقِيَادِ الْبَاطِنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] وَاللَّامُ فِيهِ لِلْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ عَنْهُ بِالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَجَوَابَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَجَوَابُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَرِيَاضِ الصَّالِحِينَ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الْمَصَابِيحِ، فَإِنَّهُ قَدَّمَ فِيهِ الْإِيمَانَ، وَالتَّصْدِيقَ، وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ أَسَاسُ قَاعِدَةِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ، وَمَا جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا لِتَعْلِيمِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – كَانَ يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكَمِ التَّدْرِيجِيَّةِ فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ، وَيَتَرَقَّى مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ عَلَى الْإِخْلَاصِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بِتَأْخِيرِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْإِيمَانِ، لَكِنْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا عَنْ عُمَرَ، فَفِي إِيرَادِ الْحَدِيثِ هَذَا اللَّفْظَ اعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَلَى الْبَغَوِيِّ فِي الْمَصَابِيحِ، وَفِي رِوَايَةٍ بِتَوَسُّطِ الْإِحْسَانِ بَيْنَهُمَا فَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ فَذُكِرَ فِي الْقَلْبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ التَّوَسُّطِ أَنَّ لَهُ تَعَلُّقًا بِكُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ، وَالتَّأْخِيرَ مِنَ الرُّوَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ وَاحِدَةٌ فَكَانَ الْوَاقِعُ أَمْرًا وَاحِدًا عَبَّرَ الرُّوَاةُ عَنْهُ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
(قَالَ: (الْإِسْلَامُ) ] : أَعَادَهُ، وَوَضَعَهُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ إِرَادَةً لِوُضُوحِهِ [ (أَنْ تَشْهَدَ) ] أَيْ: أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ خِطَابًا عَامًّا، وَلَمْ يَقُلْ تَعْلَمَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَبْلَغُ فِي الِانْكِشَافِ مِنْ مُطْلَقِ الْعِلْمِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكْفِ أَعْلَمُ عَنْ أَشْهَدُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِسْلَامُ شَهَادَةُ [ (أَنْ) ] : وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ أَيْ: أَنَّهُ، وَالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ [ (لَا إِلَهَ) ] : لَا هِيَ النَّافِيَةُ لِلْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْصِيصِ عَلَى نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ [ (إِلَّا اللَّهُ) ] : قِيلَ: خَبَرُ لَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَحْذُوفٌ، وَالْأَحْسَنُ فِيهِ لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ، وَلِكَوْنِ الْجَلَالَةِ اسْمًا لِلذَّاتِ الْمُسْتَجْمِعِ لِكَمَالِ الصِّفَاتِ، وَعَلَمًا لِلْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ، قِيلَ: لَوْ بُدِّلَ بِالرَّحْمَنِ لَا يَصِحُّ بِهِ التَّوْحِيدُ الْمُطْلَقُ، ثُمَّ قِيلَ: التَّوْحِيدُ هُوَ الْحُكْمُ بِوَحْدَانِيَّةِ الشَّيْءِ، وَالْعِلْمُ بِهَا، وَاصْطِلَاحًا إِثْبَاتُ ذَاتِ اللَّهِ بِوَحْدَانَيَّتِهِ مَنْعُوتًا بِالتَّنَزُّهِ عَمَّا يُشَابِهُهُ اعْتِقَادًا فَقَوْلًا، وَعَمَلًا فَيَقِينًا، وَعِرْفَانًا فَمُشَاهَدَةً، وَعِيَانًا فَثُبُوتًا، وَدَوَامًا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: لِلتَّوْحِيدِ لُبَّانِ، وَقِشْرَانِ كَاللَّوْزِ فَالْقِشْرَةُ الْعُلْيَا الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ، وَالثَّانِيَةُ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ جَازِمًا، وَاللُّبُّ أَنْ يَنْكَشِفَ بِنُورِ اللَّهِ سِرُّ التَّوْحِيدِ بِأَنْ يَرَى الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ صَادِرَةً عَنْ فَاعِلٍ وَاحِدٍ، وَيَعْرِفَ سِلْسِلَةَ الْأَسْبَابِ مُرْتَبِطَةً بِمُسَبِّبَاتِهَا، وَلُبُّ اللُّبِّ أَنْ لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا وَاحِدًا، وَيَسْتَغْرِقُ فِي الْوَاحِدِ الْحَقِّ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غَيْرِهِ.
[ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) ] : إِيمَاءٌ إِلَى النُّبُوَّةِ، وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ الْإِسْلَامِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَنْ قَالَ الْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ أَيْ: تُوَحِّدَهُ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوِ الْإِشْرَاكِ.
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ هُوَ الِاحْتِجَابُ بِالْجَمْعِ عَنِ التَّفْصِيلِ، وَهُوَ مَحْضُ الْجَبْرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَمُجَرَّدُ إِسْنَادِ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ إِلَى الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَائِرِ الْخَلْقِ احْتِجَابٌ بِالتَّفْصِيلِ عَنِ الْجَمْعِ الَّذِى هُوَ صَرْفُ الْقُدْرَةِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّعَطِيلِ، أَوِ الثَّنَوَيَّةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ.
قَالَ فِي الْعَوَارِفِ: الْجَمْعُ اتِّصَالٌ لَا يُشَاهِدُ صَاحِبُهُ إِلَّا الْحَقَّ فَمَنْ شَاهَدَ غَيْرَهُ فَمَا ثَمَّ جَمْعٌ، وَالتَّفْرِقَةُ شُهُودٌ لِمَا شَاهَدَ بِالْمُبَايَنَةِ فَقَوْلُهُ: آمَنَّا بِاللَّهِ جَمْعٌ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا تَفْرِقَةٌ اهـ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ تَفْرِقَةٌ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ جَمْعٌ، وَالْأَوَّلُ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ، وَالثَّانِي حَطٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْقُرْبُ بِالْوَجْدِ جَمْعٌ، وَغَيْبَتُهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَفْرِقَةٌ، وَكُلُّ جَمْعٍ بِلَا تَفْرِقَةٍ زَنْدَقَةٌ، وَكُلُّ تَفْرِقَةٍ بِلَا جَمْعٍ تَعْطِيلٌ وَحَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
” [ (وَتُقِيمَ) ، أَيْ: وَأَنْ تُقِيمَ [ (الصَّلَاةَ) ] أَيْ: الْمَعْهُودَةَ شَرْعًا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: الْمَكْتُوبَةَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِهِ.
يَعْنِي بِأَنْ تُؤَدِّيَهَا، وَتَحْفَظَ شُرُوطَهَا، وَتَعْدِلَ أَرْكَانَهَا، وَتُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ، وَتُصَلِّي [ (وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ) ] أَيْ: وَأَنْ تُعْطِيَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّمْلِيكِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ زَكَى.
بِمَعْنَى طَهُرَ، وَنَمَا، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ النِّصَابِ ; لِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْمُخْرِجَ، أَوِ الْمُخْرَجَ عَنْهُ، وَيَزِيدُ الْبَرَكَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ تَقْيِيدُهَا بِالْمَفْرُوضَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ [ (وَتَصُومَ) ] : بِالنَّصْبِ [ (رَمَضَانَ) ] أَيْ: فِي شَهْرِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِهِ بِلَا كَرَاهَةٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَهْرٍ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَهُوَ مِنْ رَمَضَ إِذَا احْتَرَقَ مِنَ الرَّمْضَاءِ فَأُضِيفَ إِلَيْهِ الشَّهْرُ، وَسُمِّيَ بِهِ لِارْتِمَاضِهِمْ مِنْ حَرِّ الْجُوعِ، أَوْ مِنْ حَرَارَةِ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَرِقُ بِهِ الذُّنُوبُ، وَتُمْحَى بِهِ الْعُيُوبُ، أَوْ لِأَنَّهُ يَزُولُ مَعَهُ حَرَارَةُ الشَّهَوَاتِ، وَالصَّوْمُ لُغَةً الْإِمْسَاكُ، وَشَرْعًا إِمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ بِوَصْفٍ مَخْصُوصٍ، [ (وَتَحُجَّ الْبَيْتَ) ] أَيِ: الْحَرَامَ ; فَإِنَّ فِيهِ لِلْعَهْدِ، أَوْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ غَلَبَ عَلَى الْكَعْبَةِ عَلَمًا، وَاللَّامُ فِيهِ جُزْءٌ كَمَا فِي النَّجْمِ، وَالْحَجُّ لُغَةً الْقَصْدُ، أَوْ تَكْرَارُهُ مُطْلَقًا، أَوْ إِلَى مُعَظَّمٍ، وَشَرْعًا قَصْدُ بَيْتِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ [ (إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ) ] أَيْ: إِلَى الْبَيْتِ، أَوْ إِلَى الْحَجِّ أَيْ: إِنْ أَمْكَنَ لَكَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِأَنْ وَجَدْتَ زَادًا، أَوْ رَاحِلَةً كَمَا فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ [ (سَبِيلًا) ] : تَمْيِيزٌ عَنْ نِسْبَةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَأُخِّرَ عَنِ الْجَارِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّذِي فِيهِ سُهُولَةٌ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، وَتَنْكِيرُهُ لِلْعُمُومِ إِذِ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ) لَكِنَّهُ مَجَازٌ، وَتَقْدِيمُ إِلَيْهِ عَلَيْهِ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ: سَبِيلًا مَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ قَرِيبًا، أَوْ بَعِيدًا، وَنَحْوَهُمَا، بِشَرْطِ اخْتِصَاصِ انْتِهَائِهِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ ” سَبِيلًا ” مَفْعُولٌ.
بِمَعْنَى مُوَصِّلٍ، أَوْ مُبَلِّغٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ بِالْمَالِ، وَأَوْجَبَ الِاسْتِنَابَةَ عَلَى الزَّمَنِ الْغَنِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ بِالْبَدَنِ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْكَسْبِ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ الِاسْتِطَاعَةُ هِيَ الْقُدْرَةُ مِنْ طَاعَ لَكَ إِذَا سَهُلَ يُطْلَقُ عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ، وَصِحَّةِ الْآلَاتِ، وَهِيَ قَدْ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَعَلَى عَرْضٍ فِي الْحَيَوَانِ يَفْعَلُ لَهُ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، وَهِيَ كَمَا فُسِّرَتِ اسْتِطَاعَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ مَشْرُوطَةٌ فِي الْكُلِّ فَكَيْفَ خُصَّ الْحَجُّ بِهَا؟ قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ خُصَّ الْحَجُّ بِالِاسْتِطَاعَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ مَشْرُوطَةٌ فِي الْكُلِّ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ، وَكَانَ طَائِفَةٌ لَا يَعُدُّونَهَا مِنْهَا، وَيُثْقِلُونَ عَلَى الْحَاجِّ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ نَاسًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَصَرَّحَ تَسْهِيلًا عَلَى الْعِبَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَرْفَعُونَ لِهَذَا النَّصِّ الْجَلِيِّ رَأْسًا، وَيُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
أَقُولُ: وَلَعَلَّ فِي هَذَا حِكْمَةً، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْأَغْنِيَاءِ التَّارِكِينَ لِلْحَجِّ رَأْسًا مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ مَالًا، وَأَثَاثًا، وَإِيرَادُ الْأَفْعَالِ الْمُضَارِعِيَّةِ لِإِفَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ التَّجَدُّدِيِّ لِكُلٍّ مِنَ الْأَرْكَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَفِي التَّوْحِيدِ الْمَطْلُوبِ الِاسْتِمْرَارُ الدَّائِمُ مُدَّةَ الْحَيَاةِ، وَفِي الصَّلَاةِ دُونَهُ، ثُمَّ فِي الصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ دُونَهَا، وَقَدَّمَ الصَّوْمَ لِتَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَخَّرَ مَا وَجَبَ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً.
وَفِي فَتْحِ الْبَارِي فَإِنْ قِيلَ: السُّؤَالُ عَامٌّ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَالْجَوَابُ خَاصٌّ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَعْبُدَ، وَتَشْهَدَ، وَكَذَا قَالَ فِي الْإِيمَانِ: أَنْ تُؤْمِنَ، وَفِي الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لِنُكْتَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْدَرِ، وَ (أَنْ) الْفِعْلِ، لِأَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اهـ.
وَقِيلَ: الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْقَصْدُ التَّعْلِيمُ هُوَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُنَاسِبِ لِلسُّؤَالِ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَسْنَحُ بِالْبَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ أَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْمَصْدَرِ الْمُفِيدِ لِلْعِلْمِ إِلَى الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِي لِلْعَمَلِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ، وَبِنَحْوِ هَذَا الْعُدُولِ يَعْلَمُ بُلُوغَ بَلَاغَتِهِ إِلَى أَعْلَى الْغَايَاتِ، وَأَعْلَى النِّهَايَاتِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ حَذْفُ الْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى حَذْفُ الصَّوْمِ، وَفَى أُخْرَى الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَفِي أُخْرَى عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تَخَالُفَ لِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ ضَبَطَ مَا لَمْ يَضْبِطْهُ غَيْرُهُ ذُهُولًا، أَوْ نِسْيَانًا كَذَا قِيلَ، أَوْ يُقَالُ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ، فَحَذَفَ الْحَجَّ لِأَنَّ وُجُوبَهُ نَادِرٌ، وَفِي الْعُمْرِ مَرَّةً، وَحَذَفَ الصَّوْمَ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَسَاسُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ لِأَنَّهُمَا عُمْدَةُ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرُ الطَّاعَةِ، وَالِانْقِيَادِ، وَالْعِبَادَةِ لَا اسْتِيفَاءَ أَفْرَادِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ هِيَ مُعْظَمَ أَرْكَانِهَا فَالْمُرَادُ بِذِكْرِ بَعْضِهَا مَثَلًا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَقِيَّتِهَا، وَلِذَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: وَتَعْتَمِرَ، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمَّ الْوُضُوءَ فَيُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ اللَّفْظِيُّ عَلَى التَّحْدِيثِ الْمَعْنَوِيِّ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَرْكَانِ ظَاهِرًا تَبِينُ أَحْكَامُهُ فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَبَاطِنًا مِنْ حَقَائِقَ، وَأَسْرَارٍ ذَكَرَهَا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ الْأُمَنَاءُ لِأَسْرَارِ الْغُيُوبِ، فَنَحْنُ نَذْكُرُ نُبْذَةً مِنْهَا.
أَمَّا التَّوْحِيدُ، فَهُوَ ظُهُورُ فَنَاءِ الْخَلْقِ بِتَشَعْشُعِ أَنْوَارِ الْحَقِّ، وَلَهُ مَرَاتِبُ كَمَا ذَكَرَهُ ذَوُو الْمَنَاقِبِ.
الْأُولَى: التَّوْحِيدُ النَّظَرِيُّ إِنْ عُلِمَ بِالِاسْتِدْلَالِ، أَوِ التَّقْلِيدِيُّ إِنِ اعْتُقِدَ بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ، وَسَلِمَ الْقَلْبُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالْحَيْرَةِ، وَالرَّيْبِ، هُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ مُتَفَرِّدٌ بِوَصْفِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَوَحِّدٌ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ يَحْقِنُ الدِّمَاءَ، وَالْأَمْوَالَ، وَيَتَخَلَّصُ مِنَ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ فِي الْأَحْوَالِ.
الثَّانِيَةُ: التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ بِخُرُوجِهِ مِنْ غِشَاوَةِ صِفَاتِهِ، وَخَلَاصِهِ مِنْ سِجْنِ ظُلُمَاتِ ذَاتِهِ، وَانْسِلَاخِهِ عَنْ لِبَاسِ الِاخْتِيَارِ حَيْرَانَ فِي أَنْوَارِ عَظَمَةِ الْجَبَّارِ، وَلْهَانَ تَحْتَ سُبُحَاتِ سَطَوَاتِ الْأَنْوَارِ، فَيَعْرِفُ أَنَّ الْمُوجِدَ الْمُحَقِّقَ، وَالْمُؤَثِّرَ الْمُطْلَقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلَّ ذَاتِ فَرْعٍ مِنْ نُورِ ذَاتِهِ، وَكُلَّ صِفَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَقُدْرَةٍ، وَإِرَادَةٍ، وَسَمْعٍ، وَبَصَرٍ عَكْسٌ مِنْ أَنْوَارِ صِفَاتِهِ، وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ، وَمَنْشَؤُهُ نُورُ الْمُرَاقَبَةِ، وَهُوَ دُونُ الْمَرْتَبَةِ الْحَالِيَّةِ، لَكِنَّ مِزَاجَهُ مِنْ تَسْنِيمِ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفِي مِنَ الظُّلْمَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَيَرْتَفِعُ بَعْضٌ مِنَ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ.
الثَّالِثَةُ: التَّوْحِيدُ الْحَالِّيُّ، وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَ التَّوْحِيدَ وَصْفًا لَازِمًا لِذَاتِ الْمُوَحَّدِ بِتَلَاشِي ظُلُمَاتِ رُسُومِ وُجُودِ الْغَيْرِ إِلَّا قَلِيلًا فِي غَلَبَةِ إِشْرَاقِ نُورِ التَّوْحِيدِ، وَاسْتَنَارُ نُورِ حَالِهِ فِي نُورِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ كَاسْتِتَارِ نُورِ الْكَوَاكِبِ فِي نُورِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا اسْتَنَارَ الصُّبْحُ أَدْرَجَ ضَوْءَ نُورِ الْكَوَاكِبِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي مُشَاهَدَةِ جَمَالِ وُجُودِ الْوَاحِدِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ شُهُودِهِ إِلَّا ذَاتُ الْوَاحِدِ، وَيَرَى التَّوْحِيدَ صِفَةَ الْوَاحِدِ لَا صِفَتَهُ بَلْ لَا يَرَى ذَلِكَ، قَالَ الْجُنَيْدُ: التَّوْحِيدُ مَعْنًى يَضْمَحِلُّ فِيهِ الرُّسُومُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْعُلُومُ، وَيَكُونُ اللَّهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ.
الرَّابِعَةُ: التَّوْحِيدُ الْإِلَهِيُّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي الْأَزَلِ مَوْصُوفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الذَّاتِ، وَالْأَحَدِيَّةِ فِي الصِّفَاتِ، كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، وَالْآنَ كَمَا كَانَ.
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَلَمْ يَقُلْ يَهْلِكُ؛ لِأَنَّ عِزَّةَ وَحْدَانِيَّتِهِ لَمْ تَدَعْ لِغَيْرِهِ وُجُودًا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْشَدَ الْعَارِفُ الْأَنْصَارِيُّ لِنَفْسِهِ شِعْرًا: مَا وَحَدَّ الْوَاحِدُ مِنْ وَاحِدٍ
إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ
عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ
وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قِيلَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِعْرَاجَانِ: مِعْرَاجٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ إِلَى عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَمَحَلِّ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَمِعْرَاجٌ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِلَى الْغَيْبِ، ثُمَّ مِنَ الْغَيْبِ إِلَى غَيْبِ الْغَيْبِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الْمُسَافِرُ إِذَا عَادَ إِلَى وَطَنِهِ أَتْحَفَ أَصْحَابَهُ، وَإِنَّ تُحْفَةَ أُمَّتِكَ الصَّلَاةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْمِعْرَاجَيْنِ الْجُسْمَانِيِّ بِالْآدَابِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالرُّوحَانِيِّ بِالْأَذْكَارِ، وَالْأَحْوَالِ.
وَلِهَذَا وَرَدَ: الصَّلَاةُ مِعْرَاجُ الْمُؤْمِنِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَصَوْمُ الشَّرِيعَةِ مَنَافِعُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا التَّشَبُّهُ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى لَكَفَى بِهِ فَضْلًا، وَصَوْمُ الطَّرِيقَةِ، فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْوَانِ، وَالْإِفْطَارِ بِمُشَاهَدَةِ الرَّحْمَنِ.
صُمْتُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمَّا تَجَلَّى كَانَ لِي شَاغِلٌ عَنِ الْإِفْطَارِ وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى تَزْكِيَةِ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِتَرْكِ الْأَمْوَالِ، وَصَرْفِهَا إِلَى أَسْبَابِ الْوُصُولِ إِلَى الْأَحْوَالِ، وَتَخْلِيَةِ الْقَلْبِ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَتَخْلِيَةِ الرُّوحِ لِظُهُورِ تَجَلِّيَاتِ الْأَنْوَارِ، وَأَمَّا الْحَجُّ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ زِيَارَةِ بَيْتِ الْجَلِيلِ عَلَى الْخَلِيلِ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ بِأَنْ وَجَدَ شَرَائِطَ السُّلُوكِ، وَإِمْكَانَهُ، وَآدَابَ السَّفَرِ، وَأَرْكَانَهُ، وَهِيَ الْإِحْرَامُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الرُّسُومِ، وَالْعَادَاتِ، وَالتَّجَرُّدُ عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَفَاءِ الطَّوِيَّاتِ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعُكُوفُ عَلَى عَتَبَةِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ، وَالطَّوَافُ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْأَطْوَارِ السَّبُعِيَّةِ بِالْأَطْوَافِ السَّبْعِيَّةِ حَوْلَ كَعْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ صَفَا الصَّفَاتِ، وَمَرْوَةِ الْمَرَوَاتِ، وَالْحَلْقُ بِمَحْوِ آثَارِ الْعُبُودِيَّةِ بِمُوسَى الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ النَّاسِكِ: يَا مَنْ إِلَى وَجْهِهِ حَجِّي وَمُعْتَمَرِي
إِنْ حَجَّ قَوْمٌ إِلَى تُرْبٍ، وَأَحْجَارِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعْدٍ
سِرًّا بِسِرٍّ، وَإِضْمَارًا بِإِضْمَارٍ (قَالَ: صَدَقْتَ) : دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ السَّائِلَ مَا عَدَّهُ مِنَ الصَّوَابِ، وَحَمْلًا لِلسَّامِعِينَ عَلَى حِفْظِ الْجَوَابِ، (فَعَجِبْنَا لَهُ) أَيْ: لِلسَّائِلِ (يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ) : التَّعَجُّبُ حَالَةٌ لِلْقَلْبِ تَعْرِضُ عِنْدَ الْجَهْلِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ، فَوَجْهُ التَّعَجُّبِ أَنَّ السُّؤَالَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ غَالِبًا بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَالتَّصْدِيقَ يَقْتَضِي عِلْمَ السَّائِلِ بِهِ ; لِأَنَّ صَدَقْتَ إِنَّمَا يُقَالُ إِذَا عَرَفَ السَّائِلُ أَنَّ الْمَسْئُولَ طَابَقَ مَا عِنْدَهُ جُمْلَةً، وَتَفْصِيلًا، وَهَذَا خِلَافُ عَادَةِ السَّائِلِ، وَمِمَّا يَزِيدُ التَّعَجُّبَ أَنَّ مَا أَجَابَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الرَّجُلُ مِمَّنْ عُرِفَ بِلِقَائِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَضْلًا عَنْ سَمَاعِهِ مِنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ صَدَقْتَ أَنْكَرْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: انْظُرُوا هُوَ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ كَأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَفِي أُخْرَى مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِثْلَ هَذَا كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ صَدَقْتَ.
قِيلَ: هُوَ مِنْ صَنِيعِ الشَّيْخِ إِذَا امْتَحَنَ الْمُعِيدَ عِنْدَ حُضُورِ الطَّلَبَةِ لِيَزِيدُوا فِي طُمَأْنِينَةٍ، وَثِقَةٍ فِي أَنَّهُ يُعِيدُ الدَّرْسَ، وَيُلْقِي الْمَسْأَلَةَ مِنَ الشَّيْخِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَنُقْصَانٍ، وَفِيهِ نُسْخَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى – إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى – عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 – 5] (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مَا الْإِيمَانُ، وَاسْتُشْكِلَتْ بِأَنَّ مَا لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ؟ فَالْجَوَابُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا الْأَحَقُّ بِالتَّعْلِيمِ، وَلِأَنَّ التَّصْدِيقَ فِي ضِمْنِهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْمُطَابَقَةُ حَاصِلَةٌ فِي الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي [قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ) ] : أُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ حَتَّى لَا يَكُونَ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَكُونَ الدَّوْرُ فِي تَعْرِيفِهِ.
وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ أَيْ: تَعْتَرِفُ، وَلِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ فِيهِ أَنَّ الِاعْتِرَافَ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُنَا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ آمَنَ بِهِ إِيمَانًا أَيْ: صَدَّقَهُ، نَعَمْ لَوْ ضَمِنَ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ لَكَانَ حَسَنًا، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَنْ تُصَدِّقَ مُعْتَرِفًا، أَوْ تَعْتَرِفَ مُصَدِّقًا فَيُفِيدُ كَوْنَ الْإِقْرَارِ شَطْرًا، أَوْ شَرْطًا.
قِيلَ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مُغَايَرَةِ الْعَمَلِ لِلْإِيمَانِ فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَنِ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَهُ تَصْدِيقًا [ (بِاللَّهِ) ] أَيْ: بِتَوْحِيدِ ذَاتِهِ، وَتَفْرِيدِ صِفَاتِهِ، وَبِوُجُوبِ وَجُودِهِ، وَبِثُبُوتِ كَرَمِهِ، وَجُودِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ جَلَالِهِ، وَجَمَالِهِ.
قِيلَ: الصِّفَةُ إِمَّا حَقِيقَةٌ لَا يَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُهَا عَلَى شَيْءٍ كَالْحَيَاةِ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ يُتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْقِدَمِ، أَوْ وُجُودِيَّةٌ، وَهِيَ صِفَاتُ الْإِكْرَامِ، أَوْ سَلْبِيَّةٌ، وَهِيَ صِفَاتُ الْجَلَالِ، وَتَنْحَصِرُ الْوُجُودِيَّةُ فِي ثَمَانِيَةٍ نَظَمَهَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ: حَيَاةٌ وَعِلْمٌ قُدْرَةٌ وَإِرَادَةٌ
كَلَامٌ وَإِبْصَارٌ وَسَمْعٌ مَعَ الْبَقَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: هَذَا الْحَدِيثُ بَيَانُ أَصْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمَا الْأَعْمَالَ الْمَذْكُورَةَ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ شَعَائِرِهِ، ثُمَّ قِيلَ: الْإِيمَانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ قَيْسٍ، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ أَصْلَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَالطَّاعَاتُ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ اسْتِسْلَامٌ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ، وَيَفْتَرِقَانِ، وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ اهـ.

✩✩✩✩✩✩✩

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي الشَّرْعِ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ انْقِيَادَ الظَّاهِرِ لَا يَنْفَعُ بِدُونِ انْقِيَادِ الْبَاطِنِ، وَكَذَا الْعَكْسُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَوَّلِ عَلَى الْحُكْمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَمَدَارَ الثَّانِي عَلَى الْأَمْرِ الْأُخْرَوِيِّ، أَوِ الْأَوَّلُ بِنَاؤُهُ عَلَى اللُّغَةِ، وَالثَّانِي مَدَارُهُ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَصَنَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِمَامَانِ كَبِيرَانِ، وَأَكْثَرَا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَتَكَافَآ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَصَادِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ التَّصْدِيقُ إِذْعَانُ النَّفْسِ، وَقَبُولُهَا بِمَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهُوَ: تَقْلِيدِيٌّ، وَتَحْقِيقِيٌّ.
وَالتَّحْقِيقِيُّ إِمَّا اسْتِدْلَالِيٌّ، أَوْ ذَوْقِيٌّ، وَالذَّوْقِيُّ إِمَّا كَشْفِيٌّ وَاقِفٌ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ، أَوِ الْغَيْبِ، أَوْ غَيْبِيٌّ غَيْرُ وَاقِفٍ عَلَيْهِ، وَالْغَيْبِيُّ إِمَّا مُشَاهَدَةٌ، أَوْ شُهُودٌ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ الْمُمْتَنِعُ الزَّوَالِ، وَالثَّانِي الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الثَّابِتُ بِالْبُرْهَانِ، وَالثَّالِثُ الْمُمْتَنِعُ الزَّوَالِ الثَّابِتُ بِالْوِجْدَانِ، وَالثَّلَاثَةُ مَرَاتِبُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَالْأَخِيرَانِ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَالرَّابِعُ هُوَ الْمُشَاهَدَةُ الرُّوحَانِيَّةُ مَعَ بَقَاءِ الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَيُسَمَّى عَيْنَ الْيَقِينِ، وَالْخَامِسُ هُوَ الشُّهُودُ الْحَقَّانِيُّ عِنْدَ تَجَلِّي الْوَحْدَةِ الذَّاتِيَّةِ، وَزَوَالِ الِاثْنَيْنِيَّةِ، وَيُسَمَّى حَقَّ الْيَقِينِ، هَذَا وَإِنَّ لِلْإِيمَانِ وَجُودًا غَيْبِيًّا، وَوُجُودًا ذِهْنِيًّا، وَوُجُودًا لَفْظِيًّا، أَمَّا الْأَوَّلُ، فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ فِي مُعْتَقَدِهِ مِنْ أَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَهُ نُورٌ يَقْذِفُهُ الْحَقُّ مِنْ مَلَكُوتِهِ إِلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ فَيُبَاشِرُ أَسْرَارَهُمْ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَضْرَةِ ثَابِتٌ فِي قُلُوبِهِمْ، فَإِذَا انْكَشَفَ جَمَالُ الْحَقِّ لَهُ ازْدَادَ ذَلِكَ النُّورُ فَيَتَقَوَّى إِلَى أَنْ يَنْبَسِطَ، وَيَنْشَرِحَ الصَّدْرُ، وَيَطَّلِعَ الْعَبْدُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَيَتَجَلَّى لَهُ الْغَيْبُ، وَغَيْبُ الْغَيْبِ، وَيَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَنْبَعِثُ مِنْ قَلَمِهِ دَاعِيَةُ الِاتِّبَاعِ، فَيَنْضَافُ إِلَى نُورِ مَعْرِفَتِهِ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] وَذَلِكَ الْقَذْفُ، وَالْكَشْفُ يَتَعَلَّقُ بِمُرَادِ اللَّهِ فِي أَحَايِينَ، نَسِيمُ الصِّفَاتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِهِ، نَعَمْ شَرَائِطُهُ مُكْتَسَبَةٌ، وَأَمَّا الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ فَمُلَاحَظَةُ ذَلِكَ النُّورِ، وَمُطَالَعَتُهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَأَمَّا الْوُجُودُ اللَّفْظِيُّ، فَهُوَ الشَّهَادَتَانِ، وَكَمَا أَنَّ إِيمَانَ الْعَوَامِّ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلُ بِالْأَرْكَانِ، فَإِيمَانُ الْخَوَاصِّ عُزُوبُ النَّفْسِ مِنَ الدُّنْيَا، وَسُلُوكُهُ طَرِيقَ الْعُقْبَى، وَشُهُودُ الْقَلْبِ مَعَ الْمَوْلَى، وَإِيمَانُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ مُلَازَمَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَابَةُ الْخَلْقِ إِلَى الْفَنَاءِ فِي اللَّهِ، وَإِخْلَاصُ السِّرِّ لِلْبَقَاءِ بِاللَّهِ ذَوَّقَنَا اللَّهُ.

Transform Your Home Into a Cash Machine

[ (وَمَلَائِكَتِهِ) ] : جَمْعُ مَلَاكٍ، وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ قُدِّمَتِ اللَّامُ عَلَى الْهَمْزَةِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ بَعْدَ نَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى مَا قَبْلَهَا فَصَارَ مَلَكٌ، وَلَمَّا جُمِعَتْ رُدَّتِ الْهَمْزَةُ، وَقِيلَ قُلِبَتْ أَلِفًا، وَقُدِّمَتِ اللَّامُ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَ كَشَمْأَلٍ، وَشَمَائِلَ، ثُمَّ تُرِكَتْ هَمْزَةُ الْمُفْرَدِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى اللَّامِ، وَالتَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، أَوْ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ أُطْلِقَتْ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْجَوَاهِرِ الْعُلْوِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنِ الْكُدُورَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهِيَ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَخَاصَّةً أَصْفِيَاءَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانَيَّةٌ مُقْتَدِرَةٌ عَلَى تَشَكُّلَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصُّعُودُ، وَالنُّزُولُ، وَالتَّسْبِيحُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ النَّفَسِ مِنَّا، فَمَشَقَّةُ التَّكْلِيفِ مُنْتَفِيَةٌ، وَالْمَعْنَى نَعْتَقِدُ بِوُجُودِهِمْ تَفْصِيلًا فِيمَا عُلِمَ اسْمُهُ مِنْهُمْ ضَرُورَةً كَجِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، وَإِجْمَالًا فِي غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ، وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ كِرَامًا كَاتِبِينَ، وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةً مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ، وَأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ وَصْفِ الْأُنُوثَةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرُّسُلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ، أَوْ هُمْ فَلَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُوجِبُ لِدُخُولِ الْإِيمَانِ بِهَا فِي مَفْهُومِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ، أَوِ الْمَعَادِ؟ فَأُجِيبَ: بِأَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَطِنٍ يَرَى الْمَعْقُولَ كَالْمَحْسُوسِ، وَيُدْرِكُ الْغَائِبَ كَالْمُشَاهَدِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِلَى مَنِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَةُ الْحِسِّ، وَمُتَابَعَةُ الْوَهْمِ فَقَطْ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُعَلِّمٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيَذُودُهُمْ عَنِ الزَّيْغِ الْمُطْلَقِ، وَيَكْشِفُ لَهُمُ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيُحِلُّ عَنْ عُقُولِهِمُ الشُّبُهَاتِ، وَمَا هُوَ إِلَّا النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ لِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَعِلَ الْقَرِيحَةِ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] يَحْتَاجُ إِلَى نُورٍ يُظْهِرُ لَهُ الْغَائِبَ، وَهُوَ الْوَحْيُ، وَالْكِتَابُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ نُورًا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَامِلٍ، وَمُوَصِّلٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُتَوَسِّطُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] فَالْمُرَادُ لَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا تَعَلَّمَ مِنَ النَّبِيِّ مَا يُحَقِّقُهُ بِإِرْشَادِ الْكِتَابِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ بِتَوَسُّطِ الْمَلَكِ أَنَّ لَهُ إِلَهًا وَاجِبَ الْوُجُودِ فَائِضَ الْجُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ، [ (وَكُتُبِهِ) ] أَيْ: وَنَعْتَقِدُ بِوُجُودِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ تَفْصِيلًا فِيمَا عُلِمَ يَقِينًا كَالْقُرْآنِ، وَالتَّوْرَاةِ، وَالزَّبُورِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَإِجْمَالًا فِيمَا عَدَاهُ، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَلَا تَحْرِيفٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
وَأَمَّا كَوْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ.
قِيلَ: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ، مِنْهَا عَشْرُ صَحَائِفَ نَزَلَتْ عَلَى آدَمَ وَخَمْسُونَ عَلَى شِيثَ، وَثَلَاثُونَ عَلَى إِدْرِيسَ، وَعَشَرَةٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَرْبَعَةُ السَّابِقَةُ، وَأَفْضَلُهَا الْقُرْآنُ، [ (وَرُسُلِهِ) ] بِأَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَتُؤْمِنَ بِوُجُودِهِمْ فِيمَنْ عُلِمَ بِنَصٍّ، أَوْ تَوَاتَرَ تَفْصِيلًا، وَفِي غَيْرِهِمْ إِجْمَالًا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَرَادُفِ الرَّسُولِ، وَالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ يَجِبُ بِالْأَنْبِيَاءِ.
وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ وَفَاءُ عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: (مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا» ) اهـ.
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّغَايُرِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ إِنْسَانٌ بَعَثَهُ اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالرَّسُولَ مَنْ أُمِرَ بِهِ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَا عَكْسَ، فَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ تَبْلِيغِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ لَا تَبْلِيغَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مَنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ التَّفْصِيلُ، وَالثَّابِتَ هُوَ الْإِجْمَالُ، أَوِ النَّفْيُ مُقَيِّدٌ بِالْوَحْيِ الْجَلِيِّ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ.
فَإِنْ قُلْتَ: مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ مَا بَعْدَ الرُّسُلِ، وَمَا قَبْلَهُمْ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: التَّنْبِيهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ الْمَلَكَ بِالْكِتَابِ إِلَى الرَّسُولِ لِمَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ، أَوِ الْمَعَادِ، وَأَنَّ الْخَيْرَ، وَالشَّرَّ يَجْرِيَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى مَا قَدَّرَهُ، وَقَضَاهُ، وَأَرَادَهُ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ لَا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنَ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ، وَلَا مِنَ الْكُتُبِ إِذْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ حِكْمَةُ عَالِمِ التَّكْلِيفِ، وَالْوَسَائِطِ، وَإِلَّا فَمَا قَامَ لِي مَعَ اللَّهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، مَعْلُومٌ لِنَبِيِّنَا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِذْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمْكِينِهِ فِي وَقْتِ كُشُوفِ الْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي بَحْرِ الْوَحْدَةِ حَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ أَثَرُ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْكَوْنَيْنِ، وَهَذَا مَحَلُّ اسْتِقَامَتِهِ فِي مَشْهَدِ التَّمْكِينِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وَلَيْسَ هُنَاكَ مَقَامُ جِبْرِيلَ، وَجَمِيعِ الْكَرُوبِيِّينَ، وَلَا مَقَامُ الصَّفِيِّ، وَالْخَلِيلِ، وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ كَذَلِكَ لَكِنْ يَرُدُّهُ اللَّهُ إِلَى تَأْدِيبِ أُمَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ التَّلْوِينِ، وَلَا يَذُوبَ فِي أَنْوَارِ كِبْرِيَاءِ الْأَزَلِ، [ (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ] أَيْ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْأَحْسَنُ لِيَشْمَلَ أَحْوَالَ الْبَرْزَخِ فَإِنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَلِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أُخِّرَ عَنْهُ الْحِسَابُ، وَالْجَزَاءُ، وَقِيلَ هُوَ الْأَبَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُؤْمِنَ بِوُجُودِهِ، وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَالْبَعْثِ الْآخِرِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، أَوْ لِإِفَادَةِ تَعَدُّدِهِ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَوْ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ إِلَى الدُّنْيَا، وَالثَّانِي الْبَعْثُ مِنْ بُطُونِ الْقُبُورِ إِلَى مَحَلِّ الْحَشْرِ، وَالنُّشُورِ.
وَفِي أُخْرَى لَهُ: وَبِلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، فَاللِّقَاءُ الِانْتِقَالُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، وَالْبَعْثُ بَعْثُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ حِسَابٍ، وَمِيزَانٍ، وَجَنَّةٍ، وَنَارٍ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي رِوَايَةٍ.
وَقِيلَ: اللِّقَاءُ الْحِسَابُ، وَقِيلَ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَعْثِ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ [ (وَتُؤْمِنَ) ] ، أَيْ: وَأَنْ تُؤْمِنَ [ (بِالْقَدَرِ) ] : بِفَتْحِ الدَّالِّ، وَيُسَكَّنُ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَقَضَاهُ، وَإِعَادَةُ الْعَامِلِ إِمَّا لِبُعْدِ الْعَهْدِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانِيُّ أَنَّنِي
إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا أَوْ لِشَرَفِ قَدْرِهِ، وَتَعَاظُمِ أَمْرِهِ وَقَعَ فِيهِ الِاهْتِمَامُ لِأَنَّهُ مَحَارُ الْأَفْهَامِ، وَمَزَالُّ الْأَقْدَامِ، وَقَدْ عَلِمَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – أَنَّ الْأُمَّةَ سَيَخُوضُونَ فِيهِ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّقُونَهُ فَاهْتَمَّ بِشَأْنِهِ، ثُمَّ قَرَّرَهُ بِالْإِبْدَالِ بِقَوْلِهِ: [ (خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ) ] أَيْ: نَفْعِهِ، وَضُرِّهِ، وَزِيدَ فِي رِوَايَةٍ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، فَإِنَّ الْبَدَلَ تَوْضِيحٌ مَعَ التَّوْكِيدِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْمِيمِ لِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَعِنْدِي أَنَّ إِعَادَةَ الْعَامِلِ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ بِهِ دُونَ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ كَفَرَ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، وَالتَّكْمِيلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ بَدَلُ بَعْضٍ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ الْكُلِّ، وَالرَّابِطَةُ بَعْدَ الْعَطْفِ، وَالْمَعْنَى تَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ، وَالشَّرَّ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلَائِقِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ مُرْتَبِطٌ بِقَدَرِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] وَهُوَ مُرِيدٌ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] فَالطَّاعَاتُ يُحِبُّهَا، وَيَرْضَاهَا بِخِلَافِ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَالْإِرَادَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا، ثُمَّ الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ بِنِظَامِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى تَرْتِيبٍ خَاصٍّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَالْقَدَرُ تُعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِالْأَشْيَاءِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَهُوَ تَفْصِيلُ قَضَائِهِ السَّابِقِ بِإِيجَادِهَا فِي الْمَوَادِّ الْجُزْئِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِلَوْحِ الْمَحْوِ، وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُسَمَّى الْكِتَابُ بِلَوْحِ الْقَضَاءِ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ بِلَوْحِ الْقَدَرِ فِي وَجْهِ هَذَا تَحْقِيقُ كَلَامِ الْقَاضِي.
وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالْقَضَاءَ هُوَ التَّفْصِيلُ، فَهُوَ أَخَصُّ، وَمَثَّلَ هَذَا بِأَنَّ الْقَدَرَ مَا أُعِدَّ لِلُّبْسِ، وَالْقَضَاءَ بِمَنْزِلَةِ اللُّبْسُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ.
كَانَ فِي الْبَدْءِ عِلْمٌ، ثُمَّ ذِكْرٌ، ثُمَّ مَشِيئَةٌ، ثُمَّ تَدْبِيرٌ، ثُمَّ مَقَادِيرُ، ثُمَّ إِثْبَاتٌ فِي اللَّوْحِ، ثُمَّ إِرَادَةٌ، ثُمَّ قَضَاءٌ، فَإِذَا قَالَ: كُنْ فَكَانَ عَلَى الْهَيْئَةِ إِلَى عِلْمٍ فَذِكْرٍ، ثُمَّ شَاءَ فَدَبَّرَ، ثُمَّ قَدَّرَ، ثُمَّ أَثْبَتَ، ثُمَّ قَضَى، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ حَيْثُ اسْتَقَامَ فِي الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ إِلَى أَنِ اسْتَقَامَ فِي اللَّوْحِ، ثُمَّ اسْتَبَانَ إِلَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أُمُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ الْقَدَرَ كَتَقْدِيرِ النَّقَّاشِ الصُّورَةَ فِي ذِهْنِهِ، وَالْقَضَاءَ كَرَسْمِهِ تِلْكَ الصُّورَةَ لِلتِّلْمِيذِ بِالْأُسْرُبِ، وَوَضْعُ التِّلْمِيذِ الصِّبْغَ عَلَيْهَا مُتَّبِعًا لِرَسْمِ الْأُسْتَاذِ هُوَ الْكَسْبُ، وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ رَسْمِ الْأُسْتَاذِ كَذَلِكَ الْعَبْدُ فِي اخْتِيَارِهِ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ، وَلَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، هَذَا وَالْقَدَرِيَّةُ فَسَّرُوا الْقَضَاءَ بِعِلْمِهِ بِنِظَامِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنْكَرُوا تَأْثِيرَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ خَيْرَهَا، وَشَرَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُرَادَةٌ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ مُكْتَسَبَةٌ لِلْعِبَادِ لِأَنَّ لَهُمْ نَوْعَ اخْتِيَارٍ فِي كَسْبِهَا، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى إِرَادَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَهَذَا أَوْسَطُ الْمَذَاهِبِ، وَأَعْدَلُهَا، وَأَوْفَقُهَا لِلنُّصُوصِ، فَهُوَ الْحَقُّ، وَالصَّوَابُ خِلَافًا لِلْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِبَادَ مَجْبُورُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، إِذْ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا تَكْلِيفَ، وَمَنِ اعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِهَذَا اللَّازِمِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَلْبَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ أَصْلِهَا إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهَا أَحَدٌ بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ، وَخِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ النَّافِينَ لِلْقَدَرِ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ، وَأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا، وَأَنَّ إِرَادَتَهُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا لِاسْتِقْلَالِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِالْإِيجَادِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي أَفْعَالِهِ، إِذْ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ لَهُ تَعَالَى شُرَكَاءَ فِي مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ، فَمَنِ اعْتَقَدَ حَقِيقَةَ الشَّرِكَةِ قَصْدًا فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ تَنْزِيهَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.
رُوِيَ أَنَّهُ كَتَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِىُّ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَقَدَرِهِ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ حَمَلَ ذَنْبَهُ عَلَى رَبِّهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ اسْتِكْرَاهًا، وَلَا يُعْصَى بِغَلَبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِمَا مَلَّكَهُمْ وَقَادِرٌ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَوْ شَاءَ لَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي جَبَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ جَبَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى الطَّاعَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الثَّوَابَ، وَلَوْ جَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْعِقَابَ، وَلَوْ أَهْمَلَهُمْ كَانَ ذَلِكَ عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنْ لَهُ فِيهِمُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي غَيَّبَهَا عَنْهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَالسَّلَامُ، فَهَذِهِ رِسَالَةٌ يَظْهَرُ عَلَيْهَا أَنْوَارُ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ ذَاتِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ إِتْيَانَ الْمَقْدُورَاتِ وَأَحْكَامِهَا عَلَى مَا هُوَ حَقُّهَا فِي أَزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ مَخْصُوصَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَوَحُّدِ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِهَا الْمُقْتَضِي لِتَوَحُّدِ الْمُقَدِّرِ، وَالْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ كَسِعَةِ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآثَارِ قُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَنُفُوذِ قَضَائِهِ فِيهِمْ، وَالْعِلْمِ بِكَمَالِ صُنْعِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَسْبَابِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَقْطَعُ الْقَدَرَ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَلَا يَأْنَسُ بِهَا إِذَا وَجَدَهَا، وَلَا يَغْضَبُ بِسَبَبِ فَوْتِ شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ، وَلَا بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَهَارِبِ.
قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ” «مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ» “.
فَيَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِلْحَقِّ فِيمَا أَرَادَهُ مِنَ الْقَضَاءِ الْمُطْلَقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ وُجُودَ مَخْلُوقَاتِهِ لِمَظَاهِرِ تَجَلِّي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا مِقْدَارٌ مُقَدَّرٌ لِمَظَاهِرِ تَجَلِّي مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، وَبِذَلِكَ يُسَبِّحُ لَهُ كَمَا قَالَهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَلِكُلِّ ذَرَّةٍ لِسَانٌ مَلَكُوتِيٌّ نَاطِقٌ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ تَنْزِيهًا لِصَانِعِهِ، وَحَمْدًا لَهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ مَظْهَرِيَّتِهَا لِلصِّفَاتِ الْجَمَالِيَّةِ وَالْجَلَالِيَّةِ فَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَقَادِيرُ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ دُونَ ذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهَا إِلَّا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ لَا يَسَعُنِي أَرْضِي، وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، وَلِذَا قِيلَ: قَلْبُ الْمُؤْمِنِ عَرْشُ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: لَوْ وَقَعَ الْعَالَمُ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا قَلْبِ الْعَارِفِ مَا أَحَسَّ بِهِ.

[قَالَ: (صَدَقْتَ) قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ] : قِيلَ أَيِ: الْمَعْهُودُ ذِهْنًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] وَ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَاتِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى الْأَخَصُّ فَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصَ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا لِأَنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْكَلِمَةِ، وَجَاءَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَكُنْ إِيمَانُهُ صَحِيحًا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ.
فَكَانَ الْمُخْلِصُ فِي الطَّاعَةِ يُوصِلُ الْفِعْلَ الْحِسِّيَّ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَائِي يُبْطِلُ عَمَلَ نَفْسِهِ، وَالْإِخْلَاصُ تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ طَلَبِ عِوَضٍ، وَغَرَضِ عَرَضٍ، وَرُؤْيَةِ رِيَاءٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِحْسَانُ الْعَمَلِ، وَهُوَ إِحْكَامُهُ وَإِتْقَانُهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِخْلَاصَ، وَمَا فَوْقَهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَنَفْيِ الشُّعُورِ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ.
[قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ) ] ، أَيْ: تُوَحِّدَهُ، وَتُطِيعَهُ فِي أَوَامِرِهِ، وَزَوَاجِرِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْ تَخْشَى اللَّهَ، وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَثَرُ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ مُنْتِجَةٌ لِلْعِبَادَةِ، وَهِيَ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ وَالْمَذَلَّةِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: الْعِبَادَةُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مُنَافٍ لِلشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ تَصْدُرُ عَنْ نِيَّةٍ يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةً لِلشَّرِيعَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى مِنْ إِبْدَاعِ الْخَلْقِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ.
وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً ازْدَادَ عُبُودِيَّةً، وَلِذَا خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ، وَأُولُو الْعَزْمِ بِخَصَائِصَ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ عَنْهَا مَا دَامَ حَيًّا بَلْ فِي الْبَرْزَخِ عَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا سَأَلَهُ الْمَلَكَانِ عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، وَفِي الْقِيَامَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَإِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِ، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ: أَنَّ الْعِبَادَةَ حِفْظُ الْحُدُودِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَقَطْعُ الْعَلَائِقِ وَالشُّرَكَاءِ عَنْ شِرْكٍ، وَالْفَنَاءُ عَنْ مُشَاهَدَتِكَ فِي مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ، وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْبُدَهُ رَهْبَةً مِنَ الْعِقَابِ وَرَغْبَةً فِي الثَّوَابِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعِبَادَةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ.
أَوْ يَعْبُدَهُ تَشَوُّقًا لِعِبَادَتِهِ وَقَبُولَ تَكَالِيفِهِ، وَتُسَمَّى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ عَيْنُ الْيَقِينِ، أَوْ يَعْبُدَهُ لِكَوْنِهِ إِلَهًا وَكَوْنِهِ عَبْدًا، وَالْإِلَهِيَّةُ تُوجِبُ الْعُبُودِيَّةَ، وَتُسَمَّى بِالْعُبُودَةِ، وَهَذِهِ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الْيَقِينِ، وَالشِّرْكُ رُؤْيَةُ ضُرٍّ، أَوْ نَفْعٍ مِمَّا سِوَاهُ، وَإِثْبَاتُ وُجُودِ غَيْرِ اللَّهِ ذَاتًا، أَوْ صِفَةً، أَوْ فِعْلًا [ (كَأَنَّكَ تَرَاهُ) ] : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: عِبَادَةٌ شَبِيهَةٌ بِعِبَادَتِكَ حِينَ تَرَاهُ، أَوْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: حَالَ كَوْنِكَ مُشَبَّهًا بِمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ خَوْفًا مِنْهُ وَحَيَاءً، وَخُضُوعًا، وَخُشُوعًا، وَأَدَبًا، وَصَفَاءً، وَوَفَاءً، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنْ قَامَ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ إِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي عِبَادَةِ الْعَبْدِ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ يَرَى مَنْ يَعْمَلُ لَهُ الْعَمَلَ يَعْمَلُ لَهُ أَحْسَنَ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْسِينَ لِرُؤْيَةِ الْمَعْمُولِ لَهُ الْعَامِلَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَامِلُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَعْمُولَ لَهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ يَجْتَهِدُ فِي إِحْسَانِهِ الْعَمَلَ أَيْضًا، وَلِذَا قَالَ: [ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ) ] أَيْ: تُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ مَنْ تَرَاهُ [ (فَإِنَّهُ يَرَاكَ) ] أَيْ: فَعَامِلْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَرَاكَ، أَوْ فَأَحْسِنْ فِي عَمَلِكَ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَرَهُ أَيْ: بِأَنْ غَفَلْتَ عَنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُحَصِّلَةِ لِغَايَةِ الْكَمَالِ فَلَا تَغْفُلْ عَمَّا يَجْعَلُ لَكَ أَصْلَ الْكَمَالِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ جُلُّهُ.
بَلِ اسْتَمِرَّ عَلَى إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ فَإِنَّهُ يَرَاكَ أَيْ: دَائِمًا، فَاسْتَحْضِرْ ذَلِكَ لِتَسْتَحْيِيَ مِنْهُ حَتَّى لَا تَغْفُلَ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ، وَلَا تُقَصِّرَ فِي إِحْسَانِ طَاعَتِهِ ; وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ مِثْلَ الرُّؤْيَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَغْفُلْ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، فَالْفَاءُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَتَعْلِيلُ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَا يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ حَاصِلَةٌ.
سَوَاءٌ رَآهُ الْعَبْدُ أَمْ لَا.
بَلِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ لَازِمُهُ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَكُنْ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَرَاكَ، وَهُوَ مُوهِمٌ.
قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَعْبُدُ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَاعْبُدْهُ كَأَنَّهُ يَرَاكَ كَمَا ظَنَّ فَإِنَّهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ اهـ.
وَأَرَادَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى الطِّيبِيِّ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا مُتَحَقِّقَةٌ دَائِمًا حَالَةَ الْعِبَادَةِ، وَغَيْرِهَا، فَالتَّعْبِيرُ بِكَأَنَّهُ يَرَاكَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَوَهَمَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ أَيْ: كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَيَرَاكَ فَحَذَفَ الثَّانِيَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَلَطٌ قَبِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَهُوَ يَرَاكَ ; وَحَاصِلُ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْحَثُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ، وَمُرَاقَبَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ الْمُكَاشَفَةِ، وَمَعْنَاهُ إِخْلَاصُ الْعُبُودِيَّةِ، وَرُؤْيَةُ الْغَيْرِ بِنَعْتِ إِدْرَاكِ الْقَلْبِ عِيَانَ جَلَالِ ذَاتِ الْحَقِّ، وَفَنَائِهِ عَنِ الرُّسُومِ فِيهِ.
وَالثَّانِي إِلَى مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْإِجْلَالِ، وَحُصُولِ الْحَيَاءِ مِنَ الْعِلْمِ بِاطِّلَاعِ ذِي الْجَلَالِ.
قِيلَ: الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِأَنْ تَكُونَ فَانِيًا تَرَاهُ بَاقِيًا فَإِنَّهُ يَرَاكَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَزَوَالٍ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ بِالْأَلِفِ فَمَدْفُوعٌ بِحَمْلِهِ عَلَى لُغَةٍ، أَوْ عَلَى إِشْبَاعِ حَرَكَةٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَأٍ، وَهُوَ أَنْتَ، وَجَازَ حَذْفُ الْفَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ فِي حَالِ شُعُورِكَ بِوُجُودِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أَيِ: الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِذَا فَنَيْتَ، وَمِتَّ مَوْتًا حَقِيقِيًّا تَرَاهُ رُؤْيَةً حَقِيقِيَّةً، وَتَرْتَفِعُ الْعِبَادَاتُ التَّكْلِيفِيَّةُ وَالتَّكَلُّفِيَّةُ، وَإِذَا مِتَّ مَوْتًا مَجَازِيًّا، وَدَخَلْتَ فِي حَالِ الْفَنَاءِ، وَبَقِيتَ فِي مَقَامِ الْبَقَاءِ تَرَاهُ رُؤْيَةَ مُشَاهَدَةٍ غَيْبِيَّةٍ تُسْقِطُ عَنْكَ ثِقَلَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ نَفْسَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرِيَّةِ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْجَذَبَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَرَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ مَا أَيْضًا بِاللَّاحِقِ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْتُ فِي الْمَقَامِ لِتَخْطِئَةِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَفِي بَعْضِهِا فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَإِنَّ الْقَائِلَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا ادَّعَى الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُؤَدَّى بِالْعِبَارَةِ، بَلْ ذَكَرَ مَعْنًى يُؤْخَذُ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ.
قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ دَلِيلٌ لِمَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لَا تَقَعُ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ ( «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» ) قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لِأَنَّ الْبَصَرَ فِي الدُّنْيَا خُلِقَ لِلْفَنَاءِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَاقِي بِخِلَافِهِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا خُلِقَ لِلْبَقَاءِ الْأَبَدِيِّ قَوِيَ وَقَدَرَ عَلَى نَظَرِ الْبَاقِي سُبْحَانَهُ، فَرُؤْيَتُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِعَيْنِ رَأْسِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ إِمَّا عَلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ فِي الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَالُ الدُّنْيَا، وَنِزَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ مَعْرُوفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا وَقَدْ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّ جِبْرِيلَ هُنَا أَيْضًا قَالَ: صَدَقْتَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ لَمْ يَذْكُرْهُ نِسْيَانًا، أَوِ اخْتِصَارًا، أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَذْكُورِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ السُّنَّةِ مَسْطُورٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلْ هَاهُنَا صَدَقْتَ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَلْسَلِ الرَّبَّانِيِّ: «الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِي أَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي» اهـ.
وَمَا ذُكِرَ أَوَّلًا هُوَ الْأَوْلَى (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ) أَيْ: عَنْ وَقْتِ قِيَامِهَا لِمَا فِي رِوَايَةِ: مَتَى السَّاعَةُ، لَا وُجُودُهَا؛ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ السَّابِقِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَبَّرَ بِهَا عَنْهَا، وَإِنْ طَالَ زَمَنُهَا اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ زَمَانِهَا، فَإِنَّهَا تَقَعُ بَغْتَةً، أَوْ لِسُرْعَةِ حِسَابِهَا، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ لِطُولِهَا، أَوْ تَفَاؤُلًا كَالْمَفَازَةِ لِلْمَهْلَكَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ كَسَاعَةٍ عِنْدَ الْخَلْقِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ.
وَالسَّاعَةُ لُغَةً مِقْدَارٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَعُرْفًا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
قِيلَ: وَالسَّاعَةُ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْقِيَامَةِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْكُبْرَى تُطْلَقُ عَلَى مَوْتِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الْوُسْطَى كَمَا فِي قَوْلِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَصْغَرِهِمْ، ( «إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» ) إِذِ الْمُرَادُ انْقِضَاءُ عَصْرِهِمْ، وَلِذَا أَضَافَ إِلَيْهِمْ وَعَلَى الْمَوْتِ، وَهِيَ السَّاعَةُ الصُّغْرَى، وَوَرَدَ: مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ.
قَالَ: (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا) ، أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا.
قِيلَ، حَقُّ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ لِيَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى اللَّامِ.
أُجِيبَ: بِأَنَّهُ كَمَا يُقَالُ سَأَلْتُ عَنْ زَيْدٍ الْمَسْأَلَةَ يُقَالُ سَأَلْتُهُ عَنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْأَكْثَرُ فَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّامِ، وَالْمَجْرُورُ إِلَى السَّاعَةِ، وَمَا نَافِيةٌ أَيْ: لَيْسَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهَا.
(بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) : نَفَى أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِأَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ – فِي أَمْرِ السَّاعَةِ – لِأَنَّهَا مِنْ مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) .
قِيلَ أَيْ: عَنْ ذَاتِي مُبَالِغَةً عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ يَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، فَلَا يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعْلَمِيَّةِ نَفْيُ أَصْلِ الْعِلْمِ عَنْهَا مَعَ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي انْتِفَاءِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَمَسَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ: لَسْتُ أَعْلَمَ بِعِلْمِ السَّاعَةِ مِنْكَ لَكِنَّهُ عَدَلَ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ سَائِلٍ وَمَسْئُولٍ سِيَّانِ فِي ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَالْبَاءُ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ.
قِيلَ: وَمَا أَفْهَمَهُ مِنْ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَيْرُ الْمُرَادِ فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، أَوْ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَعْلَمَانِهِ مِنْهُ، وَهُوَ نَفْسُ وُجُودِهَا، وَهَذَا وَقَعَ بَيْنَ عِيسَى وَجِبْرِيلَ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ عِيسَى كَانَ سَائِلًا وَجِبْرِيلُ مَسْئُولًا فَانْتَفَضَ بِأَجْنِحَتِهِ فَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.
رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ سَأَلَ جِبْرِيلُ عَنِ السَّاعَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْآيَةِ، وَبَيْنَ مَا اشْتُهِرَ عَنِ الْعُرَفَاءِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْغَيْبِيَّةِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ يُنْقَلُ فِي الْأَحْوَالِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى نَعْتِ الرُّوحَانِيَّةِ فَيَعْلَمَ الْغَيْبَ، وَتُطْوَى لَهُ الْأَرْضُ، وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ ; فَالْجَوَابُ: أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَلِتَنْبِيهِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْجَوَابُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَلَا الِاسْتِنْكَافُ مِنْ قَوْلِ لَا أَدْرِي الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْعِلْمِ كَمَا نَبَّهَهُمْ مِمَّا لَهُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِمَّا قَدْ سَلَفَ بِحُسْنِ السُّؤَالِ الَّذِي هُوَ نِصْفُ الْعِلْمِ فَتَمَّ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي فَلِأَنَّ لِلْغَيْبِ مَبَادِئَ وَلَوَاحِقَ، فَمَبَادِئُهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا اللَّوَاحِقُ، فَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ عَلَى بَعْضِ أَحِبَّائِهِ لَوْحَةَ عِلْمِهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَنِ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ، وَصَارَ غَيْبًا إِضَافِيًّا، وَذَلِكَ إِذْ تَنَوَّرَ الرُّوحُ الْقُدُسِيَّةُ، وَازْدَادَ نُورِيَّتُهَا، وَإِشْرَاقُهَا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ظُلْمَةِ عَالَمِ الْحِسِّ، وَتَحْلِيَةُ مِرْآةِ الْقَلْبِ عَنْ صَدَأِ الطَّبِيعَةِ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَفَيَضَانُ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ حَتَّى يَقْوَى النُّورُ، وَيَنْبَسِطَ فِي فَضَاءِ قَلْبِهِ فَتَنْعَكِسُ فِيهِ النُّقُوشُ الْمُرْتَسِمَةُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَتَصَرَّفُ فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَلْ يَتَجَلَّى حِينَئِذٍ الْفَيَّاضُ الْأَقْدَسُ بِمَعْرِفَتِهِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعَطَايَا فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا؟ (قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ أَمَارَةٍ أَيْ: عَلَامَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ أَشْرَاطِهَا، وَهُوَ جَمْعُ شَرْطٍ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَالْمُرَادُ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا، وَلِذَا قِيلَ أَيْ: مُقَدِّمَاتُهَا، وَقِيلَ صِغَارُ أُمُورِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ سَأُخْبِرُكَ، وَفِي أُخْرَى، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، وَجُمِعَ بِأَنَّهُ ابْتَدَأَهُ بِقَوْلِهِ، وَسَأُخْبِرُكَ، فَقَالَ السَّائِلُ: فَأَخْبِرْنِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ نَبَّأَتُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا.
قَالَ: أَجَلْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَحَدِّثْنِي [ (قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا) ] أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِهَا أَوْ إِحْدَى أَمَارَاتِهَا وِلَادَةُ الْأَمَةِ مَالِكَهَا وَمَوْلَاهَا، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ عَلَامَاتُهَا وِلَادَةُ الْأَمَةِ، وَرُؤْيَةُ الْحُفَاةِ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَ عَنِ الْجَمْعِ بِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّهُ كَمَا عَلَيْهِ جُمِعَ، وَتَأْنِيثُهَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ ذُكِّرَ فِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، لِيَشْمَلَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، أَوْ فِرَارًا مِنْ شَرِكَةِ لَفْظِ رَبِّ الْعِبَادِ، وَإِنْ جَوَّزَ إِطْلَاقَهُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِالْإِضَافَةِ دُونَ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ أَرَادَ الْبِنْتَ فَيُعْرَفُ الِابْنُ بِالْأَوْلَى، وَالْإِضَافَةُ إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ سَبَبُ عِتْقِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ وَلَدُ رَبِّهَا، أَوْ مَوْلَاهَا بَعْدَ الْأَبِ، وَفَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِأَنَّ السَّبْيَ يَكْثُرُ بَعْدَ اتِّسَاعِ رُقْعَةِ الْإِسْلَامِ فَيَسْتَرِدُّ النَّاسُ إِمَاءَهُمْ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ كَالسَّيِّدِ لِأُمِّهِ لِأَنَّ مِلْكَهَا رَاجِعٌ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قُوَّةِ الدِّينِ، وَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنَ الْأَمَارَاتِ؛ لِأَنَّ بُلُوغَ الْغَايَةِ مُنْذِرٌ بِالتَّرَاجُعِ وَالِانْحِطَاطِ الْمُؤْذِنِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ إِلَى أَنَّ الْأَعِزَّةَ تَصِيرُ أَذِلَّةً لِأَنَّ الْأُمَّ مُرَبِّيَةٌ لِلْوَلَدِ مُدَبِّرَةٌ أَمْرَهُ فَإِذَا صَارَ الْوَلَدُ رَبَّهَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ بِنْتًا يَنْقَلِبُ الْأَمْرُ كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّ الْأَذِلَّةَ يَنْقَلِبُونَ أَعِزَّةً مُلُوكَ الْأَرْضِ فَيَتَلَاءَمُ الْمَعْطُوفَانِ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَانْقِلَابِ أَحْوَالِ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يُشَاهَدُ قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثٍ أَنَّهُ ( «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، وَوُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» ) .
وَقِيلَ: سُمِّيَ وَلَدُهَا سَيِّدَهَا؛ لِأَنَّ لَهُ وَلَاءَهَا بِإِرْثِهِ لَهُ عَنْ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ، أَوْ أَنَّهُ كَسَيِّدِهَا لِصَيْرُورَةِ مَالِ أَبِيهِ إِلَيْهِ غَالِبًا فَتَصِيرُ أُمُّهُ كَأَنَّهَا أَمَتَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِمَاءَ تَلِدْنَ الْمُلُوكَ فَتَكُونُ أُمُّهُ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَأُيِّدَ بِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانُوا يَسْتَنْكِفُونَ غَالِبًا مِنْ وَطْءِ الْإِمَاءِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْحَرَائِرِ، ثُمَّ انْعَكَسَ الْأَمْرُ سِيَّمَا مِنْ أَثْنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ السَّبْيَ إِذَا كَثُرَ قَدْ يُسْبَى الْوَلَدُ صَغِيرًا، ثُمَّ يُعْتَقُ، وَيَصِيرُ رَئِيسًا بَلْ مَلِكًا، ثُمَّ يَسْبِي أُمَّهُ فَيَشْتَرِيهَا عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا بِهَا ثُمَّ يَسْتَخْدِمُهَا، وَقَدْ يَطَؤُهَا أَوْ يُعْتِقُهَا وَيَتَزَوَّجُهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَسَادُ الْأَحْوَالِ بِكَثْرَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَتُرَدَّدُ فِي أَيْدِي الْمُشْتَرِينَ حَتَّى يَشْتَرِيَهَا ابْنُهَا أَوْ يَطَأَهَا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ بَعْلِهَا، وَإِنْ فُسِّرَ بِسَيِّدِهَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى كَثْرَةِ عُقُوقِ الْأَوْلَادِ فَيُعَامِلُ الْوَلَدُ أُمَّهُ مُعَامَلَةَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ مِنَ الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا، وَخُصَّ بِوَلَدِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْعُقُوقَ فِيهِ أَغْلَبُ، وَعَبَّرَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِإِذَا بَدَلَ أَنِ الْمَفْتُوحَةِ إِشَارَةً إِلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا يُقَالُ: إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ، وَلَا يُقَالُ: إِنْ بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ لِإِشْعَارِهِ بِالشَّكِّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي جَزْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ نَظَرٌ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَ هَذَا الْمَعْنَى وَاعْتَقَدَهُ، وَإِلَّا فَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ إِنْ مَوْضِعَ إِذْ، أَوْ بِالْعَكْسِ لِأَغْرَاضٍ بُيِّنَتْ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي [ (وَأَنْ تَرَى) ] : خِطَابٌ عَامٌّ لِيَدُلَّ عَلَى بُلُوغِ الْخَطْبِ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ رُؤْيَةُ رَاءٍ [ (الْحُفَاةَ) ] : بِضَمِّ الْحَاءِ جَمْعُ الْحَافِي، وَهُوَ مَنْ لَا نَعْلَ لَهُ، [ (الْعُرَاةَ) ] : جَمْعُ الْعَارِي، وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْضُ بَدَنِهِ مَكْشُوفًا مِمَّا يَحْسُنُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَلْبُوسًا [ (الْعَالَةَ) ] : جَمْعُ عَائِلٍ، وَهُوَ الْفَقِيرُ مِنْ عَالَ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ، أَوْ مِنْ عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ وَكَثُرَ عِيَالُهُ، [ (رِعَاءَ الشَّاءِ) ] : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاعٍ كَتَاجِرٍ وَتِجَارٍ، وَالشَّاءُ جَمْعُ شَاةٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْإِبِلِ الْبُهْمِ بِضَمِّ الْبَاءِ أَيْ: السُّودِ، وَهُوَ بِجَرِّ الْمِيمِ وَرَفْعِهَا، وَصَفًا لِلرُّعَاةِ، جَمْعُ بَهِيمٍ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ حَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ لَهُمْ أَصْلٌ مِنْ أُبْهِمَ الْأَمْرُ، إِذَا لَمْ يُعْرَفْ حَقِيقَتُهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى سَوَادِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأُدْمَةَ غَالِبُ أَلْوَانِ الْعَرَبِ، أَوْ لِلْإِبِلِ جَمْعُ بَهْمَاءَ إِذِ السُّودُ شَرُّهَا عِنْدَهُمْ، وَخَيْرُهَا عِنْدَهُمُ الْحُمْرُ، وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ: خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْبَهْمِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ مَعَ ذِكْرِ الْإِبِلِ بَلْ مَعَ حَذْفِهِ الَّذِي هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ إِذْ هُوَ جَمْعُ بَهْمَةٍ وَهِيَ صِغَارُ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ، وَرُجِّحَتْ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ؛ لِأَنَّ رِعَاءَ الْغَنَمِ أَضْعَفُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ بِخِلَافِ رِعَاءِ الْإِبِلِ فَهُمْ أَهْلُ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ.
[ (يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) ] أَيْ: يَتَفَاضَلُونَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَكَثْرَتِهِ وَيَتَفَاخَرُونَ فِي حُسْنِهِ وَزِينَتِهِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ جَعَلْتَ الرُّؤْيَةَ فِعْلَ الْبَصِيرَةِ، أَوْ حَالٌ إِنْ جَعَلْتَهَا فِعْلَ الْبَاصِرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ تُبْسَطُ لَهُمُ الدُّنْيَا مِلْكًا، أَوْ مُلْكًا فَيَتَوَطَّنُونَ الْبِلَادَ، وَيَبْنُونَ الْقُصُورَ الْمُرْتَفِعَةَ، وَيَتَبَاهَوْنَ فِيهَا، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَغَلُّبِ الْأَرَاذِلِ، وَتَذَلُّلِ الْأَشْرَافِ، وَتَوَلِّي الرِّئَاسَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَتَعَاطِي السِّيَاسَةِ مَنْ لَا يَسْتَحْسِنُهَا، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا إِشَارَةٌ إِلَى اتِّسَاعِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَيَتَنَاسَبُ الْمُتَعَاطِفَانِ فِي الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِجَلَالَةِ خَطْبِهِمَا، وَنَبَاهَةِ شَأْنِهِمَا، وَقُرْبِ وُقُوعِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى إِيمَاءً إِلَى كَثْرَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَالْجَهْلِ وَبُلُوغِهَا مَبْلَغَ الْعُلْيَا، وَالثَّانِيَةُ إِلَى غَلَبَةِ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، وَنِسْيَانِ مَنَازِلِ الْعُقْبَى، وَيُقَالُ: تَطَاوَلَ الرَّجُلُ إِذَا تَكَبَّرَ فَلَا يَرِدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: التَّفَاعُلُ فِيهِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعُرَاةِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ لَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّا كَانَ عَزِيزًا فَذَلَّ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ الْعَارِينَ عَنِ الِقِيَامِ بِالدِّيَانَةِ يَسْكُنُونَ الْبِلَادَ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُصُورَ الرَّفِيعَةَ، وَيَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ انْقِلَابَ الدُّنْيَا مِنَ النِّظَامِ يُؤْذِنُ بِأَنْ لَا يُنَاسِبَ فِيهَا الْمَقَامَ فَلَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ الْكِرَامِ، كَمَا أَنْشَدَتِ الْمَلِكَةُ حُرَقَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ لَمَّا سُبِيَتْ، وَأُحْضِرَتْ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا
تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ فَهَنِيئًا لِمَنْ جَعَلَ الدُّنْيَا كَسَاعَةٍ، وَاشْتَغَلَ فِيهَا بِالطَّاعَةِ قِيَامًا بِأَمْرِ الْحَبِيبِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.
قَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ – مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1 – 2] (قَالَ) أَيْ: عُمَرُ (ثُمَّ انْطَلَقَ) أَيِ: السَّائِلُ (فَلَبِثْتُ) أَيْ: أَنَا.
وَفِي رِوَايَةٍ فَلَبِثَ أَيْ: هُوَ (مَلِيًّا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ الْمَلَاوَةِ إِذِ الْمَهْمُوزُ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ أَيْ: زَمَانًا، أَوْ مُكْثًا طَوِيلًا، وَبَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ قَالَ عُمَرُ: فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَفِي أُخْرَى فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ حِبَّانَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ، وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَنْدَهْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي وُرُودِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ رَدٌّ عَلَى مَنْ وَهَمَ أَنَّ رِوَايَةَ ثَلَاثًا مُصَحَّفَةٌ مِنْ رِوَايَةِ مَلِيًّا، وَالْمَعْنَى أَنِّي لَمْ أَسَتَخْبِرْ مِنْهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – مَهَابَةً، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – ذَكَرَهُ فِي الْمَجْلِسِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْحَالِ بَلْ قَامَ فَأَخْبَرَ الصَّحَابَةَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عُمَرَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (ثُمَّ قَالَ لِي: (يَا عُمَرُ! أَتَدْرِي) أَيْ: أَتَعْلَمُ، وَفِي الْعُدُولِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى (مَنِ السَّائِلُ؟) أَيْ: مَا يُقَالُ فِي جَوَابِ هَذَا بَشَرٌ السُّؤَالِ (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ السَّابِقَةَ وَالتَّعَجُّبَ أَوْقَعَهُمْ فِي التَّرَدُّدِ أَهُوَ بَشَرٌ أَمْ مَلَكٌ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ كَثِيرًا يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ.
(قَالَ: (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ) أَيْ: إِذَا فَوَّضْتُمُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَخْبَارِ أَيْ: تَفْوِيضُكُمْ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْإِخْبَارِ بِهِ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ ; لِأَنَّهَا تُفْصِحُ عَنْ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، وَأَكَّدَ الْكَلَامَ لِأَنَّ السَّائِلَ طَالِبٌ مُتَرَدِّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ رُدُّوهُ فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ فَمَا رَأَوْا شَيْئًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَجِبْرِيلُ مَلَكٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَمِنْ خَوَاصِّ الْمَلَكِ أَنْ يَتَمَثَّلَ لِلْبَشَرِ فَيَرَاهُ جِسْمًا.
اهـ.
قِيلَ: وَالسِّرُّ فِي التَّوَسُّطِ أَنَّ الْمُكَالَمَةَ تَقْتَضِي مُنَاسَبَةً بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَوَسُّطَ جِبْرِيلَ لِيَتَلَقَّفَ الْوَحْيَ بِوَجْهِهِ الَّذِي فِي عَالَمِ الْقُدْرَةِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَلَقُّفًا رُوحَانِيًّا، أَوْ مِنَ اللَّوْحِ، وَيُلْقِيهِ بِوَجْهِهِ الَّذِي فِي عَالَمِ الْحِكْمَةِ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَرُبَّمَا يَنْزِلُ الْمَلَكُ إِلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَرُبَّمَا يَرْتَقِي النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَدْ يَرْتَقِي إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَيَتَعَرَّى عَنِ الْكُسْوَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَرِدُ الْوَحْيُ عَلَى الْقَلْبِ فِي لُبْسَةِ الْجَلَالِ، وَأُبَّهَةِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْكَمَالِ، وَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِهِ فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَجَدَهُ الْمُنْزِلُ مُلْقًى فِي الرُّوعِ كَمَا فِي الْمَسْمُوعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَحْيَانًا: ( «يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» “، ثُمَّ جِبْرِيلُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، وَبِفَتْحِهَا وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعَ يَاءٍ وَتَرْكِهَا، أَرْبَعُ لُغَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ.
[ (أَتَاكُمْ) ] : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، أَوْ خَبَرٌ لِجِبْرِيلَ عَلَى أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ [ (يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ) ] “: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي أَتَاكُمْ أَيْ: عَازِمًا تَعْلِيمَكُمْ، فَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الْإِتْيَانِ مُعَلِّمًا، أَوْ مَفْعُولٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمُرَادُ تَثْبِيتُهُمْ عَلَى عِلْمِهِمْ، وَتَقْدِيرُهُ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَمَكَّنَ غَايَةَ التَّمَكُّنِ فِي نُفُوسِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَحْصُولَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَعَزُّ مِنَ الْمُنْسَاقِ بِلَا تَعَبٍ، وَإِسْنَادُ التَّعْلِيمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَأَضَافَ الدِّينَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالدِّينِ الْقَيِّمِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، أَوِ الْخِطَابُ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابَةِ خُصُوصًا، أَوْ عُمُومًا، فَإِنَّ سَائِرَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِحْسَانَ يُسَمَّى دِينًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] الْمُرَادُ بِهِ الْكَامِلُ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَفِي رِوَايَةٍ: أَرَادَ أَنْ تَعْلَمُوا إِذَا لَمْ تَسْأَلُوا، وَفِي أُخْرَى: «وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا كُنْتُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَبِأَنَّهُ لَجِبْرِيلُ» ، وَفِي أُخْرَى: ثُمَّ وَلَّى، فَلَمَّا لَمْ يُرَ طَرِيقُهُ قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ خُذُوا عَنْهُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا شُبِّهَ عَلَيَّ مُنْذُ أَتَانِي قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ، وَمَا عَرَفْتُهُ حَتَّى وَلَّى» “.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مَعَ تَغْيِيرٍ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى بَعْضِ رُوَاتِهِ.
وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ غَزِيرَةٍ، وَفَوَائِدَ كَثِيرَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي طَرِيقِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ جَلِيلٌ سُمِّيَ حَدِيثَ جِبْرِيلَ، وَأُمَّ الْأَحَادِيثِ، وَأُمَّ الْجَوَامِعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَالطَّرِيقَةِ، وَالْحَقِيقَةِ بَيَانًا إِجْمَالِيًّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الَّذِي عُلِمَ تَفَاصِيلُهَا مِنَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ، وَالشَّرَائِعِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أُلُوفُ التَّحِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ تُسَمَّى أُمَّ الْقُرْآنِ، وَأُمَّ الْكِتَابِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْحِكَمِ الْفُرْقَانِيَّةِ بِالدَّلَالَاتِ الْإِجْمَالِيَّةِ، فَحَدِيثُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالْحَمْدَلَةِ، وَهَذَا وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ لِاخْتِيَارِهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَمَفْتَحِ الْأَبْوَابِ.

✩✩✩✩✩✩✩

3 – وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ اخْتِلَافٍ، وَفِيهِ: ” «وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ، مُلُوكَ الْأَرْضِ فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ” ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] الْآيَةَ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

3 – (وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا (مَعَ اخْتِلَافٍ) أَيْ: بَيْنَ بَعْضِ أَلْفَاظِهِمَا (وَفِيهِ) أَيْ: فِي مَرْوِيِّ أَبِي هُرَيْرَةَ (رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ) : فَأَخَذُوا يَرُدُّونَهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جِبْرِيلُ.
ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ عَنِ النَّوَوِيِّ مَعَ أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْإِخْبَارِ فِي الْمَجْلِسِ غَيْرَ صَرِيحٍ، فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِعْلَامِ عُمَرَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ أَيْضًا: (وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ) أَيْ: عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ (الْبُكْمَ) أَيْ: عَنِ النُّطْقِ بِالصِّدْقِ جُعِلُوا لِبَلَادَتِهِمْ، وَحَمَاقَتِهِمْ، وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِمْ كَأَنَّهُ أُصِيبَتْ مَشَاعِرُهُمْ مَعَ كَوْنِهَا سَلِيمَةً تُدْرِكُ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ (مُلُوكَ الْأَرْضِ) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَرَأَيْتَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْمُرَادُ بِأُولَئِكَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ لِمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ: مَا الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ؟ قَالَ: الْعُرَيْبُ مُصَغَّرُ الْعَرَبِ (فِي خَمْسٍ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ أَيْ: تَرَاهُمْ مُلُوكَ الْأَرْضِ مُتَفَكِّرِينَ فِي خَمْسِ كَلِمَاتٍ إِذْ مِنْ شَأْنِ الْمُلُوكِ الْجُهَّالِ التَّفَكُّرُ فِي أَشْيَاءَ تَعْنِيهِمْ، وَلَا تَعْنِيهِمْ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ أَيْ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ فِي عِلْمِ الْخَمْسِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إِلَى إِبْطَالِ الْكِهَانَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَسَوُّرٌ عَلَى عِلْمِ شَيْءٍ كُلِّيٍّ أَوْ جُزْئِيٍّ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ، وَإِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ عَنْ إِتْيَانِ مَنْ يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] .
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْأَوْلِيَاءُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ الْحَصْرُ؟ قُلْتُ: الْحَصْرُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّاتِهَا دُونَ جُزْئِيَّاتِهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا – إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 – 27] بِنَاءً عَلَى اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ، وَأَخْرَجَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنِ ادَّعَى عِلْمَ شَيْءٍ مِنْهَا غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إِلَيْهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ.
قَالَ: وَأَمَّا ظَنُّ الْغَيْبِ فَقَدْ يَجُوزُ مِنَ الْمُنَجِّمِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرٍ عَادِيٍّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ وَالْجُعْلِ وَإِعْطَائِهَا فِي ذَلِكَ اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ ذَكَرَ الْعِلْمَ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ قَبْلَ ظُهُورِهِ فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا الْغَيْبُ خَمْسٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْبٌ يَعْلَمُهُ قَوْمٌ، وَيَجْهَلُهُ قَوْمٌ اهـ.
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ بِأَخْبَارِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مِنْ مَضْمُونِ كُلِّيَّاتِ الْآيَةِ، فَلَعَلَّهُ بِطَرِيقِ الْمُكَاشَفَةِ أَوِ الْإِلْهَامِ أَوِ الْمَنَامِ الَّتِي هِيَ ظَنِّيَّاتٌ لَا تُسَمَّى عُلُومًا يَقِينَيَّاتٍ، وَقِيلَ الْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ أَيْ: ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي خَمْسٍ، أَوْ تَجِدُ ذَلِكَ فِي خَمْسٍ، وَقِيلَ فِي بِمَعْنَى مَعَ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى: مِنْ، أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ خَمْسٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَيِ: السَّاعَةُ ثَابِتَةٌ، أَوْ مَعْدُودَةٌ فِي خَمْسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: هِيَ فِي خَمْسٍ مِنَ الِغَيْبِ أَيْ: عَدَمُ وَقْتِ السَّاعَةِ مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ خَمْسِ كَلِمَاتٍ [ (لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) ] : كَمَا أَفَادَهُ تَقُومُ عِنْدَهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ، إِذِ الظَّرْفُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَعَطْفُ يُنَزِّلُ وَمَا بَعْدَهُ بِتَقْدِيرِ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ عَلَى السَّاعَةِ، وَجُمْلَةُ وَمَا تَدْرِي الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَنِ الِغَيْرِ فِيهِمَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُفَسَّرِ الْخَمْسُ بِمَفَاتِيحِ الْغَيْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وَأَمَّا إِذَا فُسِّرَتْ بِهَا فَالْحَصْرُ جَلِيٌّ لَا يُحْتَاجُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ تَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى السُّؤَالِ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ إِرْشَادًا لِلْأُمَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْكَثِيرَةِ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ الْعَوَائِدِ، (ثُمَّ قَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] أَيْ: آيَةُ تِلْكَ الْخَمْسِ بِكَمَالِهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ بَيَانًا لَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَرَأَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَتَكُونَ الْآيَةُ اسْتِشْهَادًا وَمِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ: وَهُوَ يُنَزِّلُ الْمَطَرَ الَّذِي يُغِيثُ النَّاسَ فِي أَمْكِنَتِهِ وَأَزْمِنَتِهِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (الْآيَةَ) : مِنْ قَوْلِ أَحَدِ الرُّوَاةِ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، أَوْ يَعْنِي، أَوِ اقْرَأْ، أَوْ قَرَأَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَبِالرَّفْعِ أَيْ: الْآيَةُ مَعْلُومَةٌ مَشْهُورَةٌ إِذَا قَرَأَهَا، وَقِيلَ بِالْجَرِّ وَالتَّقْدِيرُ قَرَأَ، أَوِ اقْرَأْ إِلَى الْآيَةِ أَيْ: آخِرِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ إِلَى (خَبِيرٌ) وَأُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ إِلَى (الْأَرْحَامِ) وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ثِقَةٍ وَإِفَادَةٍ، وَالرِّوَايَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْآيَةِ لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، وَتَمَامُهَا (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ تَفْصِيلَ مَا فِي أَرْحَامِ الْإِنَاثِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَوَاحِدٍ وَمُتَعَدِّدٍ، وَكَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَطَوِيلٍ وَقَصِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8] أَيْ: تَنْقُصُ: وَمَا تَزْدَادُ أَيْ: مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْجُثَّةِ وَالْعَدَدِ {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] أَيْ: بِقَدَرٍ وَاحِدٍ لَا يَتَجَاوَزُهُ، وَعَدَلَ عَنِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] ; لِأَنَّ الدِّرَايَةَ اكْتِسَابُ عِلْمِ الشَّيْءِ بِحِيلَةٍ فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ كَانَ عَدَمُ اطِّلَاعِهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُ النَّفْسِ، أَوْ ذَاتُ الرُّوحِ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قِيلَ بِالْمُشَاكَلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا الذَّاتُ الْمُطْلَقُ فَيَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا وَرَدَ: (سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) .
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) أَيْ: بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا خُصُوصًا وَغَيْرِهَا عُمُومًا (خَبِيرٌ) أَيْ: بِبَاطِنِهَا، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِظَاهِرِهَا، مَعْنَاهُ يُخْبِرُ بِبَعْضِهَا مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا لِبَعْضِ عِبَادِهِ الْمَخْصُوصِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعِ كِتَابِهِ أَنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ: (رُدُّوهُ) فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى مَرْوِيِّ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَكِنِ اسْتَدْرَكَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: إِلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَقُلْ: (الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الْأَرْضِ) ، بَلْ قَالَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ: (وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمِ فِي الْبُنْيَانِ) وَفِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ: (وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا) ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.

✩✩✩✩✩✩✩

PlantingTheSeeds-banner

4 – وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» ” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

4 – (وَعَنْ) أَيْ: وَرُوِيَ عَنِ (ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : أَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ قَالَ جَابِرٌ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَالَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَمَالَ بِهَا مَا خَلَا عُمَرَ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ.
وَقَالَ نَافِعٌ: مَا مَاتَ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ إِنْسَانٍ أَوْ زَادَ، وُلِدَ قَبْلَ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي الْحِلِّ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْحَجَّاجِ، وَدُفِنَ بِذِي طُوًى فِي مَقْبَرَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ أَمَرَ رَجُلًا فَسَمَّ زُجَّ رُمْحِهِ، وَزَاحَمَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَوَضَعَ الزِّجَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْتَظِرُكَ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضُرَّكَ الَّذِي فِي عَيْنِكَ.
قَالَ: ” لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ سَفِيهٌ مُسَلَّطٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخْفَى قَوْلَهُ ذَلِكَ عَنِ الِحَجَّاجِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ، وَكَانَ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْمَوَاقِفِ بِعَرَفَةَ، وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَفَ فِيهَا، وَكَانَ ذَلِكَ يَعِزُّ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَ الْخِلَافَةَ فَحَصَلَ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
[قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ) ] هُوَ: اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ دُونَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِذْعَانِ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِسْلَامِ بِجَمِيعِ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ: فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – حَيْثُ قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنَ الِأَوَّلِ، وَالْمُرَادُ لَهُ الْإِسْلَامُ الْكَامِلُ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ أَرْكَانِهِ مَعَ إِيمَاءٍ إِلَى بَقِيَّةِ شُعَبِ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَوَجَّهُ مَا قِيلَ إِنَّمَا يَصِحُّ الْحَدِيثُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الثَّلَاثِ.
[ (عَلَى خَمْسٍ) ] أَيْ: خَمْسِ دَعَائِمَ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَوْ خِصَالٍ أَيْ: قَوَاعِدَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِالتَّاءِ أَيْ: خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، أَوْ أَرْكَانٍ، أَوْ أُصُولٍ، وَإِنَّمَا جَازَ هُنَا لِحَذْفِ الْمَعْدُودِ شُبِّهَتْ حَالَةُ الْإِسْلَامِ مَعَ أَرْكَانِهِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ بِحَالِ خِبَاءٍ أُقِيمَ عَلَى خَمْسَةِ أَعْمِدَةٍ، وَقُطْبُهَا الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْأَرْكَانُ هِيَ الشَّهَادَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ لَفَظُ الشَّهَادَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْعَمُودِ الْوَسَطِ لِلْخَيْمَةِ، وَبَقِيَّةُ شُعَبِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْتَادِ لِلْخِبَاءِ.
قَالَ الْحَسَنُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فِي مَجْمَعِ شُهُودِ جِنَازَةٍ لِلْفَرَزْدَقِ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْمَقَامِ؟ فَقَالَ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُنْذُ كَذَا سَنَةً.
فَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْعَمُودُ فَأَيْنَ الْأَطْنَابُ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ شَبَّهَ الْإِسْلَامَ بِخَيْمَةٍ عَمُودُهَا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْأَطْنَابُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ [ (شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ] : بِالْجَرِّ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ خَمْسٍ بَدَلَ كُلٍّ، وَهُوَ مَجْمُوعُ الْمَجْرُورَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ مِنْ كُلٍّ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مَعَ مُلَاحَظَةِ الرَّبْطِ قَبْلَ الْعَطْفِ لِعَدَمِ الرَّابِطِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ: هِيَ، أَوْ إِحْدَاهُمَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مِنْهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَ (أَنْ) مُخَفَّفَةٌ، وَ (لَا) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، وَ (إِلَهَ) اسْمُهَا رُكِّبَ مَعَهَا تَرْكِيبَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَفَتْحَةُ فَتْحَتِهِ بِنَاءٌ لَا إِعْرَابٌ خِلَافًا لِلزَّجَّاجِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ نُصِبَ بِهَا لَفْظًا، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ اتِّفَاقًا تَقْدِيرُهُ مَوْجُودٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْإِلَهِ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، وَإِلَّا فَتَقْدِيرُهُ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ، وَإِلَّا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى غَيْرِ، وَهِيَ مَعَ مَا بَعْدَهَا صِفَةُ اللَّهِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَجَوَّزَ نَصْبَ الْجَلَالَةِ نَعْتًا لِإِلَهٍ عَلَى أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ، وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَاللَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ ضَمِيرِ الْخَبَرِ الْمُسْتَتِرِ فِيهِ، وَقِيلَ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ لَا بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ قَبْلَهَا، وَقِيلَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ لَا [ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) ] أَيِ: الْكَامِلُ [ (وَرَسُولُهُ) أَيْ: الْمُكَمِّلُ، وَلِتَلَازُمِ الشَّهَادَتَيْنِ شَرْعًا جُعِلَتَا خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَاقْتَصَرَ فِي رِوَايَةٍ عَلَى إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ اكْتِفَاءً، أَوْ نِسْيَانًا.
قِيلَ: وَأُخِذَ مِنْ جَمْعِهِمَا كَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِمَا عَلَى التَّوَالِي، وَالتَّرْتِيبِ، [ (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) ] أَيْ: الْمَفْرُوضَةِ، وَحُذِفَتْ تَاءُ الْإِقَامَةِ الْمُعَوَّضَةِ عَنْ عَيْنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفَةِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لِطُولِ الْعِبَارَةِ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ عَلَى مَا قَالَهُ الزُّجَاجُ، وَقِيلَ هُمَا مَصْدَرَانِ.
[ (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) ] أَيْ: إِعْطَائِهَا وَتَمْلِيكِهَا لِمَصَارِفِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا الصَّدَقَةُ الْمَكْتُوبَةُ [ (وَالْحَجِّ) ] : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا مَصْدَرَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ، وَحَجِّ الْبَيْتِ أَيْ: قَصْدِهِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الصَّوْمَ فُرِضَ قَبْلَ الزَّكَاةِ، وَهِيَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي التَّقْدِيمِ الذِّكْرِيِّ هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ إِمَّا بَدَنِيَّةٌ فَقَطْ، أَوْ مَالِيَّةٌ فَقَطْ، أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الطَّاعَةَ الْمُثَلَّثَةَ إِمَّا يَوْمِيَّةٌ، أَوْ سَنَوِيَّةٌ، أَوْ عُمْرِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِطَاعَةَ ; لِشُهْرَتِهَا، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي كُلِّ طَاعَةٍ.
[ (وَصَوْمِ رَمَضَانَ) ] أَيْ: أَيَّامِهِ بِشَرَائِطَ، وَأَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ.
قِيلَ: فِيهِ حَذْفُ شَهْرٍ، وَفِيهِ أَنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ لِلشَّهْرِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] إِضَافَتُهُ بَيَانِيَّةٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْحَجِّ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَا قَدَّمَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَ الْحَجِّ عَلَى الصَّوْمِ، وَالْجُمْهُورُ أَخَّرُوهُ عَنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِ وُجُوبِهِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْعُمْرِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُفْتَتَحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجْهُ ذِكْرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمَا فَقَطِ التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِهَا، وَأَنَّهَا أَظْهَرُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ إِذْ بِهَا يَتِمُّ الِاسْتِسْلَامُ، وَبِتَرْكِ بَعْضِهَا يَنْحَلُّ قَيْدُ الِانْقِيَادِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى كُفْرٍ حَيْثُ لَا إِنْكَارَ إِجْمَاعًا إِلَّا مَا جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ كَقَوْلِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ” «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» “: وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِهَادَ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْكَلَامُ فِي فُرُوضِ الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا زِيدَ فِي آخِرِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَأَنَّ الْجِهَادَ مِنَ الِعَمَلِ الْحَسَنِ، قِيلَ وَجْهُ الْحَصْرِ فِي تِلْكَ الْخَمْسَةِ أَنَّ الْعِبَادَةَ إِمَّا فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ.
الثَّانِي الصَّوْمُ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا لِسَانِيٌّ وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ، أَوْ بَدَنِيٌّ وَهُوَ الصَّلَاةُ، أَوْ مَالِيٌّ وَهُوَ الزَّكَاةُ، أَوْ مَالِيٌّ وَبَدَنِيٌّ وَهُوَ الْحَجُّ، وَقُدِّمَتِ الشَّهَادَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا الْعِمَادُ الْأَعْظَمُ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِي حَدِيثٍ: وَعَمُودُهَا الصَّلَاةُ.
وَفِي حَدِيثٍ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الِفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَلِذَا سُمِّيَتْ أُمَّ الْعِبَادَاتِ كَمَا سُمِّيَتِ الْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ، ثُمَّ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهَا قَرِينَتُهَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الِقُرْآنِ، وَلِلْمُنَاسَبَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ الْحَجُّ لِكَوْنِهِ مُجْمِعًا لِلْعِبَادَتَيْنِ، وَمَحَلًّا لِلْمَشَقَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ تَارِكَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَلَى مَدْرَجَةِ خَاتِمَةِ السُّوءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي اخْتُلِفَ فِي ضَعْفِهِ، وَصِحَّتِهِ: «مَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ، وَيَدُلُّ عَلَى أَصَالَةِ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] حَيْثُ وُضِعَ مَنْ كَفَرَ مَوْضِعَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ إِفَادَةِ مُبَالَغَةِ التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: ” عَنِ الْعَالَمِينَ “، حَيْثُ عَدَلَ عَنْهُ، وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ عَنِ الصَّوْمِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فَرِعَايَةٌ لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْحَجُّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ، أَوْ سِتٍّ، أَوْ ثَمَانٍ، أَوْ تِسْعٍ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَالْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعِينِيَّةِ النَّوَوِيَّةِ.

✩✩✩✩✩✩✩

healthy primal banner advert

5 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» “.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

5 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) : تَصْغِيرُ هِرَّةٍ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَسَبِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَأَشْهَرُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدُ شَمْسٍ أَوْ عَبْدُ عَمْرٍو، وَفِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ دَوْسِيُّ.
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: أَصَحُّ شَيْءٍ عِنْدَنَا فِي اسْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ فَهُوَ كَمَنْ لَا اسْمَ لَهُ، أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ وَشَهِدَهَا مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثُمَّ لَزِمَهُ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ، رَاضِيًا بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، وَكَانَ مِنْ أَحْفَظِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ مَا بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ، فَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ.
قِيلَ: سَبَبُ تَلْقِيبِهِ بِذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ يَوْمًا هِرَّةً فِي كُمِّي، فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: (مَا هَذِهِ؟) : فَقُلْتُ: هِرَّةٌ، فَقَالَ: (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَجَدْتُ هِرَّةً، وَحَمَلْتُهَا فِي كُمِّي، فَقِيلَ لِي: مَا هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: هِرَّةً، فَقِيلَ لِي: أَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ، وَقِيلَ: وَكَانَ يَلْعَبُ بِهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، وَقِيلَ: كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: الْمُكَنِّي لَهُ بِذَلِكَ وَالِدُهُ، ثُمَّ جَرُّ ” هُرَيْرَةَ ” هُوَ الْأَصْلُ، وَصَوَّبَهُ جَمَاعَةٌ ; لِأَنَّهُ جُزْءُ عَلَمٍ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ مَنْعَ صَرْفِهِ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الْأَصْلِ وَالْحَالِ مَعًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِي لَفْظَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ فَاعِلًا مَثَلًا فَإِنَّهَا تُعْرَبُ إِعْرَابَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نَظَرًا لِلْحَالِ، وَنَظِيرُهُ خَفِيٌّ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ رِعَايَتُهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَا مِنْ جِهَتَيْنِ كَمَا هُنَا، وَكَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهِ الْخِفَّةَ وَاشْتِهَارَ الْكُنْيَةِ حَتَّى نُسِيَ الِاسْمُ الْأَصْلِيُّ بِحَيْثُ اخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى قَالَ النَّوَوِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَبَلَغَ مَا رَوَاهُ خَمْسَةَ آلَافِ حَدِيثٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَمَا قِيلَ إِنَّ قَبْرَهُ بِقُرْبِ عُسْفَانَ لَا أَصْلَ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.
[ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْإِيمَانُ) ] أَيْ: ثَمَرَاتُهُ، وَفُرُوعُهُ فَأُطْلِقَ الْإِيمَانُ – وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ – عَلَيْهَا مَجَازًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِهِ وَلَوَازِمِهِ [ (بِضْعٌ وَسَبْعُونَ) ] ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِضْعَةٌ، وَالْبَاءُ مَكْسُورَةٌ فِيهِمَا وَقَدْ تُفْتَحُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَا فِي الْعَدَدِ لِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ.
وَفِي ” الْقَامُوسِ “: هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ أَوْ إِلَى الْخَمْسِ، أَوْ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْأَرْبَعَةِ، أَوْ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى تِسْعٍ، أَوْ هُوَ سَبْعٌ اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَالَّذِي فِي الْأَصْلِ هُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، جَرَى عَلَيْهَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، وَرَجَّحْتُ بِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ، وَصَوَّبَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأُولَى بِأَنَّهَا الَّتِي فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ، وَرَجَّحَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةُ ثِقَاتٍ، وَاعْتَرَضَهُ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ أَنْ يُزَادَ لَفْظٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ عَدَمِ تَنَافٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى؛ إِذْ ذِكْرُ الْأَقَلِّ لَا يَنْفِي الْأَكْثَرَ، وَأَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَخْبَرَ أَوَّلًا بِالسِّتِّينَ، ثُمَّ أُعْلِمَ بِزِيَادَةٍ فَأَخْبَرَ بِهَا، وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْكِرْمَانِيُّ، فَصَحَّ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْأَظْهَرُ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ، وَيُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ عَلَى تَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ، وَلَوْ مِنْ جِهَةِ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: [ (شُعْبَةً) ] هِيَ فِي الْأَصْلِ غُصْنُ الشَّجَرِ وَفَرْعُ كُلِّ أَصْلٍ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الْخَصْلَةُ الْحَمِيدَةُ أَيْ: الْإِيمَانُ ذُو خِصَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، وَفِي أُخْرَى: أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ بَابًا، أَيْ نَوْعًا مِنْ خِصَالِ الْكَمَالِ، وَفِي أُخْرَى: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ شَرِيعَةً، مَنْ وَافَى اللَّهَ بِشَرِيعَةٍ مِنْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَرَوَى ابْنُ شَاهِينَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ خُلُقٍ، مَنْ أَتَى بِخُلُقٍ مِنْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفُسِّرَتْ بِنَحْوِ الْحَيَاءِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالسَّخَاءِ، وَالتَّسَامُحِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَخْلَاقِهِ تَعَالَى الْمَذْكُورَةِ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا.
[ (فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ] أَيْ: هَذَا الذِّكْرُ فَوُضِعَ الْقَوْلُ مَوْضِعَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ: أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا مَوْضِعَ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهَا مَنْ أَصْلِهِ لَا مَنْ شُعَبِهِ، وَالتَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ خَارِجٌ عَنْهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا قِيلَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الْإِقْرَارِ شَطْرَ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْطٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الشَّهَادَةَ لَإِنْبَائِهِ عَنِ التَّوْحِيدِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ إِلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ، فَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ سَائِرُ الشُّعَبِ، أَوْ لِتَضَمُّنِهِ شَرْعًا مَعْنَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْتِزَامُهُ عُرْفًا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَفْضَلُهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجِبُ عِصْمَةَ الدَّمِ وَالْمَالِ لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ الزِّيَادَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَيْ: الْمَشْهُورُ مِنْ بَيْنِهَا بِالْفَضْلِ فِي الْأَدْيَانِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
[ (وَأَدْنَاهَا) ] أَيْ: أَقْرَبُهَا مَنْزِلَةً وَأَدْوَنُهَا مِقْدَارًا وَمَرْتَبَةً، بِمَعْنَى أَقْرَبُهَا تَنَاوُلًا وَأَسْهَلُهَا تَوَاصُلًا، مِنَ الدُّنُوِّ بِمَعْنَى الْقُرْبِ، فَهُوَ ضِدُّ: فُلَانٌ بَعِيدُ الْمَنْزِلَةِ، أَيْ: رَفِيعُهَا، وَمِنْ ثَمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَكَانَ أَفْضَلِهَا بِلَفْظِ: فَأَرْفَعُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَقْصَاهَا، أَوْ مِنَ الدَّنَاءَةِ أَيْ أَقَلُّهَا فَائِدَةً ; لِأَنَّهَا دَفْعُ أَدْنَى ضَرَرٍ [ (إِمَاطَةُ الْأَذَى) ] أَيْ: إِزَالَتُهُ، وَهُوَ مُصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمُؤْذِي، أَوْ مُبَالِغَةٌ، أَوِ اسْمٌ لِمَا يُؤْذِي بِهِ كَشَوْكَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ قَذَرٍ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْأَبْرَارِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْذُونَ الذَّرَّ، وَلَا يَرْضَوْنَ الضُّرَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِمَاطَةُ الْعَظْمِ أَيْ: مَثَلًا [ (عَنِ الطَّرِيقِ) ] : وَفِي طَرِيقِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أُرِيدَ بِالْأَذَى النَّفْسُ الَّتِي هِيَ مَنْبَعُ الْأَذَى لِصَاحِبِهَا وَغَيْرِهِ، فَالشُّعْبَةُ الْأُولَى مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَوْلِيَّةُ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الطَّاعَةِ الْفِعْلِيَّةِ، أَوِ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ تَرْكِيَّةٌ، أَوِ الْأُولَى مِنَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْحَقِّ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْمُجَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ، أَوِ الْأُولَى مِنَ التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، أَوِ الْأُولَى مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللَّهِ وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعِبَادِ، فَمَنْ قَامَ بِهِمَا صِدْقًا كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ حَقًّا [ (وَالْحَيَاءُ) ] : بِالْمَدِّ [ (شُعْبَةٌ) ] أَيْ: عَظِيمَةٌ [ (مِنَ الْإِيمَانِ) ] أَيْ: مِنْ شُعَبِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاءُ الْإِيمَانِيُّ، وَهُوَ خُلُقٌ يَمْنَعُ الشَّخْصَ مِنَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ؛ كَالْحَيَاءِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَالْجِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، لَا النَّفْسَانِيُّ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ، وَهُوَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْمَرْءَ مِنْ خَوْفِ مَا يُلَامُ وَيُعَابُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ مِنْ سَائِرِ الشُّعَبِ ; لِأَنَّهُ الدَّاعِي إِلَى الْكُلِّ ; فَإِنَّ الْحَيِيَّ يَخَافُ فَضِيحَةَ الدُّنْيَا وَفَظَاعَةَ الْعُقْبَى فَيَنْزَجِرُ عَنِ الْمَنَاهِي وَيَرْتَدِعُ عَنِ الْمَلَاهِي، وَلِذَا قِيلَ: حَقِيقَةُ الْحَيَاءِ أَنَّ مَوْلَاكَ لَا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَهَذَا مَقَامُ الْإِحْسَانِ الْمُسَمَّى بِالْمُشَاهَدَةِ النَّاشِئُ عَنْ حَالِ الْمُحَاسَبَةِ، وَالْمُرَاقَبَةِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ الْجَلِيلُ مُجْمَلُ حَدِيثِ جِبْرِيلَ، فَأَفْضَلُهَا مُشِيرٌ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَدْنَاهَا مُشْعِرٌ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْحَيَاءُ مُوصِلٌ إِلَى الْإِحْسَانِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – ( «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالُوا: إِنَّا لَنَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتَحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ يُحْفَظَ الرَّأْسُ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنُ وَمَا وَعَى، وَيُذْكَرُ الْمَوْتُ، وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ الْآخِرَةَ عَلَى الْأُولَى، فَمَنْ يَعْمَلْ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» ) .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّ: الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ.
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: تَتَبَّعْتُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مُدَّةً وَعَدَدْتُ الطَّاعَاتِ فَإِذَا هِيَ تَزِيدُ عَلَى الْبِضْعِ وَالسَّبْعِينَ شَيْئًا كَثِيرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى السُّنَّةِ فَعَدَدْتُ كُلَّ طَاعَةٍ عَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنَ الْإِيمَانِ فَإِذَا هِيَ تَنْقُصُ فَضَمَمْتُ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا هِيَ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْمُرَادُ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: قَدْ تَكَلَّفَ جَمَاعَةٌ عَدَّهَا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ – يَعْنِي الْبَيْضَاوِيَّ وَالْكِرْمَانِيَّ وَغَيْرَهُمَا – وَأَقْرَبُهُمْ عَدًّا ابْنُ حِبَّانَ حَيْثُ ذَكَرَ كُلَّ خَصْلَةٍ سُمِّيَتْ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ إِيمَانًا، وَقَدْ تَبِعَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَتَبِعْنَاهُمَا، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَحُدُوثِ مَا دُونَهُ، وَبِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْقَدَرِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ، وَالْحَبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِيهِ، وَمَحَبَّةُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَاعْتِقَادُ تَعْظِيمِهِ، وَفِيهِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ، وَالْإِخْلَاصُ فِيهِ، وَتَرْكُ الرِّيَاءِ، وَالنِّفَاقِ، وَالتَّوْبَةُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالشُّكْرُ، وَالْوَفَاءُ، وَالصَّبْرُ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالْحَيَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالتَّوَاضُعُ، وَفِيهِ تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ، وَرَحْمَةُ الصَّغِيرِ، وَتَرْكُ الْكِبْرِ، وَالْعُجْبِ، وَتَرْكُ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَتَرْكُ الْغَضَبِ، وَالنُّطْقُ بِالتَّوْحِيدِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ، وَالدُّعَاءُ، وَالذِّكْرُ، وَفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ، وَاجْتِنَابُ اللَّغْوِ، وَالتَّطَهُّرُ حِسًّا وَحُكْمًا، وَفِيهِ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالصَّلَاةُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالزَّكَاةُ كَذَلِكَ، وَفَكُّ الرِّقَابِ، وَالْجُودُ، وَفِيهِ الْإِطْعَامُ، وَالضِّيَافَةُ، وَالصِّيَامُ فَرْضًا وَنَفْلًا، وَالِاعْتِكَافُ، وَالْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالطَّوَافُ، وَالْفِرَارُ بِالدِّينِ، وَفِيهِ الْهِجْرَةُ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحَرِّي فِي الْإِيمَانِ، وَأَدَاءُ الْكَفَّارَاتِ، وَالتَّعَفُّفُ بِالنِّكَاحِ، وَأَدَاءُ حُقُوقِ الْعِيَالِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَتَرْبِيَةُ الْأَوْلَادِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَطَاعَةُ السَّادَةِ، وَالرِّفْقُ بِالْعَبِيدِ، وَالْقِيَامُ بِالْإِمْرَةِ مَعَ الْعَدْلِ، وَمُتَابَعَةُ الْجَمَاعَةِ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِيهِ قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ، وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْبِرِّ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَالْجِهَادُ، وَفِيهِ الْمُرَابَطَةُ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَمِنْهَا الْخُمُسُ، وَالْقَرْضُ مَعَ وَفَائِهِ، وَإِكْرَامُ الْجَارِ، وَحُسْنُ الْمُعَامَلَةِ، وَفِيهِ جَمْعُ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ، وَفِيهِ تَرْكُ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَكَفُّ الضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ، وَاجْتِنَابُ اللَّهْوِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ اهـ.
مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ ” النُّقَايَةِ “، وَأَدِلَّتُهَا مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِهَا ” إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ “، وَتَجِيءُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُتَفَرِّقَةً، وَلَكِنْ ذَكَرْتُهَا لَكَ مُجْمَلَةً لِتَتَأَمَّلَ فِيهَا مُفَصَّلَةً، فَمَا رَأَيْتَ نَفْسَكَ مُتَّصِفَةً بِهَا فَاشْكُرِ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا رَأَيْتَ عَلَى خِلَافِهَا فَاطْلُبْ مِنَ اللَّهِ التَّوْفِيقَ عَلَى تَحْصِيلِ مَا هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّعَبُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ، وَمَنْ نَقَصَ مِنْهُ بَعْضُهَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصٌ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ حِيثُ قَالَ: الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: تَمَسَّكَ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لَا فِي ذَاتِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: شُعَبُ الْإِيمَانِ؛ حَتَّى يَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِسَبْعِينَ شُعْبَةً، إِذْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ كَذَا، وَشُعَبُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ اهـ.
وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ الْإِيمَانِ بِشَجَرَةٍ ذَاتِ أَغْصَانٍ وَشُعَبٍ، كَمَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَشْبِيهَ الْكَلِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، أَيْ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي الْقَلْبِ، وَفَرْعُهَا أَيْ: شُعَبُهَا مَرْفُوعَةٌ فِي السَّمَاءِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ” بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ” مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: ” بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً “، وَكَذَا قَوْلُهُ: ” فَأَفْضَلُهَا ” إِلَى قَوْلِهِ: ” عَنِ الطَّرِيقِ ” مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، فَلَا يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَسْقَطَ قَوْلَهُ: وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ اهـ.
وَذَكَرَ الْعَيْنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: ” بِضْعٌ وَسَبْعُونَ ” مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظِ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بِلَا شَكٍّ، وَأَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: سِتٌّ وَسَبْعُونَ، أَوْ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ اهـ.
فَيُؤَوَّلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ رِوَايَتِهِمَا دُونَ زِيَادَةٍ: فَأَفْضَلُهَا إِلَخْ.

✩✩✩✩✩✩✩

Multi-Level Affiliate Program Affiliate Program

6 – وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» ” هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: ” مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ) .

6 – (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : وَكُتِبَ بِالْوَاوِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ عُمَرَ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمْ يُكْتَبْ حَالَةَ النَّصْبِ ; لِتَمَيُّزِهِ عَنْهُ بِالْأَلْفِ، وَهُوَ ابْنُ الْعَاصِ الْقُرَشِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَسْلَمَ قَبْلَ أَبِيهِ، وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ أَوِ الطَّائِفِ أَوْ مِصْرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ فِي السِّنِّ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ، قِيلَ: وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

✩✩✩✩✩✩✩

Success Habits

وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ أَبُوهُ أَكْبَرَ مِنْهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ، كَثِيرَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، عَمِيَ آخِرَ عُمْرِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَهُوَ سَبْعُمِائَةِ حَدِيثٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَنْ يَكْتُبَ حَدِيثَهُ فَأَذِنَ لَهُ.
[قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمُسْلِمُ) ] أَيِ الْكَامِلُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمُسْلِمُ الْحَقِيقِيُّ الْمُتَّصِفُ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ [ (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ) ] أَيْ وَالْمُسْلِمَاتُ، إِمَّا تَغْلِيبًا وَإِمَّا تَبَعًا، وَيَلْحَقُ بِهِمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ حُكْمًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: مَنْ سَلِمَ النَّاسُ [ (مِنْ لِسَانِهِ) ] أَيْ: بِالشَّتْمِ، وَاللَّعْنِ، وَالْغِيبَةِ، وَالْبُهْتَانِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالسَّعْيِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قِيلَ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ قَوْلُ النَّاسِ الطَّرِيقُ الطَّرِيقُ [ (وَيَدِهِ) ] : بِالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالْهَدْمِ، وَالدَّفْعِ، وَالْكِتَابَةِ بِالْبَاطِلِ، وَنَحْوِهَا، وَخُصَّا لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَذَى بِهِمَا، أَوْ أُرِيدُ بِهِمَا مَثَلًا، وَقَدَّمَ اللِّسَانَ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ بِهِ أَكْثَرُ وَأَسْهَلُ، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ نِكَايَةً كَمَا قَالَ: جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ
وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ وَلِأَنَّهُ يَعُمُّ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، وَابْتُلِيَ بِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَعُبِّرَ بِهِ دُونَ الْقَوْلِ لِيَشْمَلَ إِخْرَاجَهُ اسْتِهْزَاءً بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: كَنَّى بِالْيَدِ عَنْ سَائِرِ الْجَوَارِحِ ; لِأَنَّ سُلْطَةَ الْأَفْعَالِ إِنَّمَا تَظْهَرُ بِهَا؛ إِذْ بِهَا الْبَطْشُ وَالْقَطْعُ وَالْوَصْلُ وَالْمَنْعُ، وَالْأَخْذُ، فَقِيلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ هَذَا مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ بِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْأَيْدِيَ وَالْيَدَيْنِ تُوضَعَانِ مَوْضِعَ الْأَنْفُسِ وَالنَّفْسِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَفْعَالِ يُزَاوَلُ بِهِمَا، وَلَا يُعْرَفُ اسْتِعْمَالُ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ وَتَأْدِيبُ الْأَطْفَالِ وَالدَّفْعُ لِنَحْوِ الصِّيَالِ وَنَحْوِهَا، فَهِيَ اسْتِصْلَاحٌ وَطَلَبٌ لِلسَّلَامَةِ، أَوْ مُسْتَثْنًى شَرْعًا، أَوْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَذَى عُرْفًا، [ (وَالْمُهَاجِرُ) ] أَيْ: الْكَامِلُ، أَوْ حَقِيقَةٌ لِشُمُولِهِ أَنْوَاعَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ فَضْلَهُ عَلَى الدَّوَامِ [ (مَنْ هَجَرَ) ] أَيْ: تَرَكَ [ (مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) ] أَيْ: فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأُرِيدُ بِالْمُفَاعَلَةِ الْمُبَالَغَةُ حَيْثُ لَمْ تَصِحُّ الْمُغَالَبَةُ (هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
(وَلِمُسْلِمٍ) أَيْ: فِي صَحِيحِهِ بَعْضُهُ ; فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِهِ وَبِمَعْنَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: (رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَيُّ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: أَيُّ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ، أَوْ أَيُّ قِسْمَيْ هَذَا النَّوْعِ (خَيْرٌ) أَيْ: أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ [قَالَ: (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) ] وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ إِلَخْ.
أَيْ: إِسْلَامُ مَنْ سَلِمَ، وَقِيلَ: لِكَوْنِ ” أَيِّ ” لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى مُتَعَدِّدٍ كَانَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَيُّ أَصْحَابِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: أَيُّ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ بِمَعْنَى الْمُسْلِمِ كَعَدْلٍ بِمَعْنَى عَادِلٍ مُبَالَغَةً، وَفَرْقٌ بَيْنَ خَيْرٍ وَأَفْضَلَ، مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ إِذْ هُوَ النَّفْعُ فِي مُقَابَلَةِ الشَّرِّ وَالْمَضَرَّةِ، وَالثَّانِي: مِنَ الْكِمِّيَّةِ إِذْ هُوَ كَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِلَّةِ، وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ الْمُرَادُ بِهَا – الْكَامِلُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ هَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: النَّاسُ الْعَرَبُ، أَيْ هُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ، فَهَاهُنَا الْمُرَادُ: أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ جَمَعَ إِلَى أَدَاءِ حُقُوقِ الْحَقِّ أَدَاءَ حُقُوقِ الْخَلْقِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّانِي إِمَّا لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَفْهُومٌ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، أَوْ لِأَنَّ تَرْكَهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَفْوِ، أَوْ لِأَنَّ الثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقَّانِ، فَخُصَّ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَلِحُصُولِ السَّلَامَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ بِوُجُودِهِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ السَّلَامَةُ مِنْ إِيذَاءِ الْخَلَائِقِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ وَخُلْفَ الْوَعْدِ عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ.

✩✩✩✩✩✩✩

7 – وَعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ، وَوَلَدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» “.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

Nikahdating Advert

7 – (وَعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) أَيِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيِّ الْخَزْرَجَيِّ النَّجَّارِيِّ – بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ قَبْلَ جِيمٍ مُشَدَّدَةٍ – خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَشْرَ سِنِينَ بَعْدَمَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمَدِينَةَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَالَتْ أُمُّهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ) ، فَقَالَ: لَقَدْ دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي مِائَةً إِلَّا اثْنَيْنِ، وَإِنَّ ثَمَرَتِي لَتَحْمِلُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَلَقَدْ بَقِيتُ حَتَّى سَئِمْتُ الْحَيَاةَ، وَأَنَا أَرْجُو الرَّابِعَةَ، أَيِ الْمَغْفِرَةَ.
قِيلَ: عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ وَزِيَادَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، انْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لِيُفَقِّهَ النَّاسَ.
رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَمْزَةَ، وَهِيَ اسْمُ بَقْلَةٍ حِرِّيفِيَّةٍ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ: كَنَّانِي رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِبَقْلَةٍ كُنْتُ أَجْتَنِيهَا.
[قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) ] : وَفِي رِوَايَةٍ: الرَّجُلُ، وَفِي أُخْرَى: أَحَدٌ، وَهِيَ أَشْمَلُ مِنْهُمَا، وَالْأُولَى أَخَصُّ أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا [ (حَتَّى أَكُونَ) ] بِالنَّصْبِ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ، وَحَتَّى جَارَّةٌ [ (أَحَبَّ إِلَيْهِ) ] : أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَلِلتَّوَسُّعِ فِي الظَّرْفِ قُدِّمَ الْجَارُّ عَلَى مَعْمُولِ أَفْعَلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: [ (مِنْ وَالِدِهِ) ] أَيْ: أَبِيهِ، وَخُصَّ عَنِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ، فَمَحَبَّتُهُ أَعْظَمُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُهُمَا، وَهُوَ وَوَالِدِهِ [ (وَوَلَدِهِ) ] أَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقُدِّمَ الْوَالِدُ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ، وَأَسْبَقُ فِي الْوُجُودِ، وَتَقَدَّمَ الْوَلَدُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ أَكْثَرُ، وَخُصَّا لِأَنَّهُمَا أَعَزُّ مِنْ غَيْرِهِمَا غَالِبًا، وَأُبْدِلَا فِي رِوَايَةٍ بِالْمَالِ وَالْأَهْلِ تَعْمِيمًا لِكُلِّ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ، فَذِكْرُهُمَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَعِزَّتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَاسْتِغْرَاقًا بِقَوْلِهِ: [ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ] عَطْفًا لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، ثُمَّ النَّفْسُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ لُغَةً، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عُرْفًا لِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي الْمُوَافِقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} [التوبة: 24] الْآيَةَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ، وَ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] بَلِ الْمُرَادُ الْحُبُّ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُوجِبُ إِيثَارَ مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ رُجْحَانَهُ، وَيَسْتَدْعِي اخْتِيَارَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْهَوَى كَحُبِّ الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ، فَإِنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَتَنَاوَلُ بِمُقْتَضَى عَقْلِهِ؛ لَمَّا عَلِمَ وَظَنَّ أَنَّ صَلَاحَهُ فِيهِ، وَإِنْ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ مَثَلًا لَوْ أَمَرَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِقَتْلِ أَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ بِأَنْ يُقَاتِلَ الْكُفَّارَ حَتَّى يَكُونَ شَهِيدًا لَأَحَبَّ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ السَّلَامَةَ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، أَوِ الْمُرَادُ الْحُبَّ الْإِيمَانِيُّ النَّاشِئُ عَنِ الْإِجْلَالِ وَالتَّوْقِيرِ وَالْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُوَ إِيثَارُ جَمِيعِ أَغْرَاضِ الْمَحْبُوبِ عَلَى جَمِيعِ أَغْرَاضِ غَيْرِهِ حَتَّى الْقَرِيبِ وَالنَّفْسِ، وَلَمَّا كَانَ جَامِعًا لِمُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ وَكَمَالِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، سِيَّمَا وَهُوَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ الْمَحْبُوبِ الْحَقِيقِيِّ الْهَادِي إِلَيْهِ، وَالدَّالُّ عَلَيْهِ، وَالْمُكَرَّمُ لَدَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَمِنْ مَحَبَّتِهِ نَصْرُ سُنَّتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْ شَرِيعَتِهِ، وَتَمَنِّي إِدْرَاكِهِ فِي حَيَّاتِهِ لِيَبْذُلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ دُونَهُ اهـ.
وَمِمَّنِ ارْتَقَى إِلَى غَايَةِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَنِهَايَةِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ سَيِّدُنَا عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فَإِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْبَرَ بِالصِّدْقِ حَتَّى وَصَلَ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ إِلَى كَمَالِ ذَلِكَ، فَقَالَ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ: لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: ( «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكِ» ) .
فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنَّكَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: ( «الْآنَ يَا عُمَرُ تَمَّ إِيمَانُكَ» ) .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَهِمَ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُبُّ الْإِيمَانِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَأَظْهَرَ بِمَا أَضْمَرَ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ أَوْصَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَقَامِ الْأَتَمِّ بِبِرْكَةِ تَوْجِيهِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فَطَبَعَ فِي قَلْبِهِ حُبَّهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ حَيَاتُهُ وَلُبُّهُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِنْهُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – لَيْسَتِ اعْتِقَادَ الْأَعْظَمِيَّةِ فَحَسْبُ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً لِعُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ قَطْعًا، بَلْ أَمْرٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ بِهِ يَفْنَى الْمُتَحَلِّي بِهِ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَصِيرُ خَالِيَةً عَنْ غَيْرِ مَحْبُوبِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكُلُّ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ بِهِ – عَلَيْهِ – الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لَا يَخْلُو عَنْ وِجْدَانِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ الرَّاجِحَةِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ بِالشَّهَوَاتِ وَحُجِبَ بِالْغَفَلَاتِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّا نَرَى أَكْثَرَهُمْ إِذَا ذُكِرَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَآثَرَهَا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَأَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ أَوِ الْمَخَاوِفِ مَعَ وِجْدَانِهِ مِنْ نَفْسِهِ الطُّمَأْنِينَةَ بِذَلِكَ وِجْدَانًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ إِيثَارُ كَثِيرِينَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ، وَرُؤْيَةِ مَوَاضِعِ آثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ؛ لِمَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَمَّا تَوَالَتْ غَفَلَاتُهَا وَكَثُرَتْ شَهَوَاتُهَا كَانَتْ فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهَا مُشْتَغِلَةً بِلَهْوِهَا ذَاهِلَةً عَمَّا يَنْفَعُهَا، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ فِي بَرَكَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَيُرْجَى لَهُمْ كُلُّ خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا شَكَّ أَنَّ حَظَّ الصَّحَابَةِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُمْ بِقَدْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ أَعْلَمُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إِلَى صِفَةِ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَالْأَمَّارَةِ، فَمَنْ رَجَحَ جَانِبُ نَفْسِهِ الْمُطْمَئِنَّةِ كَانَ حُبُّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – رَاجِحًا، وَمَنْ رَجَحَ جَانِبُ نَفْسِهِ الْأَمَارَةِ كَانَ بِالْعَكْسِ اهـ.
وَاللَّوَّامَةُ حَالَةٌ بَيْنَهُمَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا مَعَهُمَا.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُوَحِّدًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنْ كَانَ سَالِمًا عَنِ الْمَعَاصِي كَالصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي اتَّصَلَ جُنُونُهُ بِالْبُلُوغِ، وَالتَّائِبِ تَوْبَةً صَحِيحَةً مِنَ الشِّرْكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي إِذَا لَمْ يُحْدِثْ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَالْمُوَفَّقُ الَّذِي مَا لَمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ – فَكُلُّ هَذَا الصِّنْفِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ أَصْلًا، لَكِنَّهُمْ يَرِدُونَهَا عَلَى الْخِلَافِ الْوَارِدِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ سُبْحَانَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَلَوْ عَمِلَ مِنَ الْمَعَاصِي مَا عَمِلَ، كَمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرٍ وَلَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ بِحَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ، فَإِنْ خَالَفَهُ ظَاهِرُ حَدِيثٍ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

✩✩✩✩✩✩✩

8 – وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» ” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

8 – (وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ) ] : مُبْتَدَأٌ، وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرٌ، وَجَازَ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: خِصَالٌ ثَلَاثٌ.
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: مِثَالُ الِابْتِدَاءِ بِنَكِرَةٍ هِيَ وَصْفُ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَعِيفٌ عَاذَ بِحَرْمَلَةَ.
أَيْ: إِنْسَانٌ ضَعِيفٌ الْتَجَأَ إِلَى ضَعِيفٍ، وَالْحَرْمَلَةُ: شَجَرَةٌ ضَعِيفَةٌ.
أَوْ ثَلَاثُ خِصَالٍ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ هَذَا فِي غَيْرِ كُلٍّ وَبَعْضٍ، أَوْ تَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، فَسَاغَ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَيَجُورُ أَنْ تَكُونَ الشَّرْطِيَّةُ صِفَةً لِثَلَاثٍ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَنْ كَانَ، وَالْمَعْنَى: ثَلَاثٌ مَنْ وُجِدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ فِيهِ.
[ (وَجَدَ) ] ، أَيْ: أَدْرَكَ وَصَادَفَ وَذَاقَ [ (بِهِنَّ) ] أَيْ بِسَبَبِ وُجُودِهِنَّ فِي نَفْسِهِ [ (حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ) ] أَيْ لَذَّتَهُ وَرَغْبَتَهُ.
زَادَ النَّسَائِيُّ: وَطَعْمُهُ.
وَأُوثِرَتِ الْحَلَاوَةُ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ إِذَا دَخَلَتْ قَلْبًا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ أَبَدًا، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ اسْتِلْذَاذُ الطَّاعَاتِ وَإِيثَارُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُسْتَلَذَّاتِ وَتَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَجَرُّعُ الْمَرَارَاتِ فِي الْمُصِيبَاتِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى الصَّحِيحِ الَّذِي يُدْرِكُ الطُّعُومَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَالْمَرِيضِ الصَّفْرَاوِيُّ الَّذِي بِضِدِّهِ إِذْ يَجِدُ طَعْمَ الْعَسَلِ مِنْ نَقْصِ ذَوْقِهِ بِقَدْرِ نَقْصِ صِحَّتِهِ، فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ مِنْ أَمْرَاضِ الْغَفْلَةِ، وَالْهَوَى يَذُوقُ طَعْمَهُ وَيَتَلَذَّذُ مِنْهُ وَيَتَنَعَّمُ بِهِ كَمَا يَذُوقُ الْفَمُ طَعْمَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ وَيَتَنَعَّمُ بِهَا، بَلْ تِلْكَ اللَّذَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ أَعْلَى، فَإِنَّ فِي جَنْبِهَا يُتْرَكُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بَلْ جَمِيعُ نَعِيمِ الْأُخْرَى، [ (مَنْ كَانَ) ] : لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ – عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ – إِمَّا بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ: هِيَ أَوْ هُنَّ أَوْ إِحْدَاهَا، وَعَلَى الثَّانِي خَبَرٌ أَيْ: مَحَبَّةُ مَنْ كَانَ [ (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ) ] : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّهُ وُصِلَ بِمَنْ، وَالْمُرَادُ الْحُبُّ الِاخْتِيَارِيُّ الْمَذْكُورُ (مِمَّا سِوَاهُمَا) ] : يَعُمُّ ذَوِي الْعُقُولِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَسَائِرِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُرَادَاتِ، وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ اللَّهِ وَنَفْسِهِ بِلَفْظِ الضَّمِيرِ فِي مَا سِوَاهُمَا، مَعَ نَهْيِهِ عَنْهُ قَائِلًا وَمِنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ لَهُ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ: ( «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ» ) .
وَوَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ إِيهَامُ التَّسْوِيَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَوْ جُمِعَ، وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَلِذَا قِيلَ: الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْمَنْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْآخَرَ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالثَّانِي فِعْلٌ، وَقِيلَ: تَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَحَبَّتَيْنِ لَا كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّهَا وَحْدَهَا ضَائِعَةٌ لَاغِيَةٌ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وَالْأَمْرُ بِالْإِفْرَادِ هُنَالِكَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِصْيَانَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِاسْتِلْزَامِ الْغَوَايَةِ، فَإِنَّ الْعَطْفَ يُفِيدُ تَكْرِيرَ الْعَامِلِ وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ التَّكْرَارِ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ غَوَى، وَمَنْ عَصَى رَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى، وَلَا يُقَالُ: عِصْيَانُ أَحَدِهِمَا عِصْيَانٌ لِلْآخَرِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْفِرَادُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ تَفْظِيعُ الْمَعْصِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُجُودُهَا مِنْ رَسُولِهِ وَحْدَهُ لَكَانَتْ مُسْتَقِلَّةً بِالْإِغْوَاءِ، فَكَيْفَ وَهِيَ لَا تُوجَدُ إِلَّا مِنْهُمَا، وَهُوَ مَعْنًى دَقِيقٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ لِطَيْفٌ وَإِنْهَاءٌ شَرِيفٌ إِلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ مَادَّةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْمُغَايَرَةُ، وَلِذَا قِيلَ: أَنَا مَنْ أَهْوَى، وَمَنْ أَهْوَى أَنَا.
وَالْمُخَالَفَةُ مُوجِبَةٌ لِلِافْتِرَاقِ؛ وَلِذَا قَالَ: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) ، وَلِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ عَلَامَاتٌ مِنْ أَظْهَرِهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ أَنْ لَا تَزِيدَ بِالْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقُصَ بِالْجَفَاءِ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا لِصَدِيقٍ جَذَبَتْهُ أَزْمَةُ الْعِنَايَةِ حَتَّى أَوْقَفَتْهُ عَلَى عَتَبَةِ الْوِلَايَةِ، وَأَحَلَّتْهُ فِي رِيَاضِ الشُّهُودِ الْمُطْلَقِ، فَرَأَى أَنَّ مَحْبُوبَهُ هُوَ الْحَقُّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ مُحَقَّقٌ.
[ (وَمَنْ أَحَبَّ) ] أَيْ: وَثَانِيَتُهُمَا مَحَبَّةُ مَنْ أَحَبَّ [ (عَبْدًا) ] أَيْ مَوْسُومًا بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، حُرًّا كَانَ أَوْ مَمْلُوكًا [ (لَا يُحِبُّهُ) ] أَيْ: لِشَيْءٍ [ (إِلَّا لِلَّهِ) ] ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ أَيْ: لَا يُحِبُّهُ لِغَرَضٍ وَعَرَضٍ وَعِوَضٍ، وَلَا يَشُوبُ مَحَبَّتَهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ وَلَا أَمْرٌ بَشَرِيٌّ، بَلْ مَحَبَّتُهُ تَكُونُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالْحُبِّ فِي اللَّهِ، وَدَاخِلًا فِي الْمُتَحَابِّينَ لِلَّهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ، أَوْ مِنْهُمَا [ (وَمَنْ يَكْرَهُ) ] أَيْ: وَثَالِثَتُهُمَا كَرَاهَةُ مَنْ يَكْرَهُ [ (أَنْ يَعُودَ) ] أَيْ: يَرْجِعَ، أَوْ يَتَحَوَّلَ [ (فِي الْكُفْرِ) ] ، وَقِيلَ: أَنْ يَصِيرَ بِدَلِيلِ تَعْدِيَتِهِ بِفِي عَلَى حَدِّ (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) فَيَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ كُفْرٌ أَيْضًا، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ: [ (بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ) ] أَيْ: أَخْلَصَهُ وَنَجَّاهُ مِنَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ أَنْقَذَ بِمَعْنَى حَفَظَ بِالْعِصْمَةِ ابْتِدَاءً بِأَنْ يُولَدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَسْتَمِرَّ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ لَا يَشْمَلُهُ وَلَكِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ بَلِ الْأَوْلَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أَيْ: بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَهُوَ يَعُمُّ الِابْتِدَاءَ وَالِانْتِهَاءَ.
[ (كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ) ] أَيْ: وَكَرَاهَةُ مَنْ يَكْرَهُ الصَّيْرُورَةَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ كَرَاهَةِ الرَّمْيِ وَالطَّرْحِ فِي النَّارِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ حَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَفِي أُخْرَى لَهُمَا مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا.
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَأَنْ تُوقَدَ نَارٌ عَظِيمَةٌ فَيَقَعَ فِيهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّ الْوُقُوعَ فِي نَارِ الدُّنْيَا أَوْلَى بِالْإِيثَارِ مِنَ الْعَوْدِ فِي الْكُفْرِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ: الْحِجَابُ أَشَدُّ الْعَذَابِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ أَبْوَابِ التَّحَلِّي بِالْفَوَاضِلِ وَالْفَضَائِلِ، وَالْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ فَفِيهَا تَحْثِيثٌ وَتَحْرِيضٌ وَتَرْغِيبٌ وَتَحْرِيصٌ عَلَى تَحْصِيلِ بَقِيَّةِ الشَّمَائِلِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ أُمَّهَاتٌ لِغَيْرِ الْمَسْطُورَاتِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: ( «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» ) كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ.

✩✩✩✩✩✩✩

9 – وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

healthy primal banner advert

9 – (وَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) أَيْ عَمِّ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِسَنَتَيْنِ، وَمِنْ لَطَافَةِ فَهْمِهِ وَمَتَانَةِ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هُوَ أَكْبَرُ، وَأَنَا أَسَنُّ.
وَأُمُّهُ أَوَّلُ امْرَأَةٍ كَسَتِ الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ وَأَصْنَافَ الْكِسْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاسَ ضَلَّ وَهُوَ صَبِيٌّ فَنَذَرَتْ إِنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُوَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، فَوَجَدَتْهُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَئِيسًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَيْهِ كَانَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالسِّقَايَةُ.
أَمَّا السِّقَايَةُ فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَأَمَّا الْعِمَارَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ قُرَيْشًا عَلَى عِمَارَتِهِ وَبِالْخَيْرِ وَتَرْكِ السِّبَابِ فِيهِ وَقَوْلِ الْهَجْرِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: عَتَقَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ مَوْتِهِ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا، وُلِدَ قَبْلَ سَنَةِ الْفِيلِ، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَكَتَمَ إِسْلَامَهُ، وَخَرَجَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مُكْرَهًا، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ ( «مَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا» ) ] فَأَسَرَهُ أَبُو الْيَسِيرِ كَعْبُ بْنُ عُمَرَ، فَفَادَى نَفْسَهُ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ.
[قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ) ] أَيْ: نَالَ وَأَدْرَكَ وَأَصَابَ وَوَجَدَ حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ، وَأَصْلُ الذَّوْقِ وُجُودُ أَدَقِّ طَعْمٍ فِي الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الذَّوْقُ الْمَعْنَوِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: ذَوْقًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا.
[ (مَنْ رَضِيَ) ] أَيْ: قَنِعَ نَفْسَهُ، وَطَابَ قَلْبُهُ، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ، وَاكْتَفَى [ (بِاللَّهِ رَبًّا) ] أَيْ: مَالِكًا وَسَيِّدًا وَمُتَصَرِّفًا، وَنَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَكَذَا أَخَوَاتُهُ، [ (وَبِالْإِسْلَامِ) ] أَيِ الشَّامِلِ لِلْإِيمَانِ [ (دِينًا) ] : عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ [ (وَبِمُحَمَّدٍ) ]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُلْحَقٌ، وَلَيْسَ لَفْظَ النُّبُوَّةِ [ (رَسُولًا) ] عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الرِّضَا الِانْقِيَادُ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ، وَالْكَمَالُ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا عَلَى بَلَائِهِ، وَشَاكِرًا عَلَى نَعْمَائِهِ، وَرَاضِيًا بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ، وَمَنْعِهِ وَإِعْطَائِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ، وَأَنْ يَتْبَعَ الْحَبِيبَ حَقَّ مُتَابَعَتِهِ فِي سُنَّتِهِ، وَآدَابِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَمُعَاشَرَتِهِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّوَجُّهِ الْكُلِّيِّ إِلَى الْعُقْبَى.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ( «أَلِظُّوا أَلْسِنَتَكُمْ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّنَا، وَالْإِسْلَامَ دِينُنَا، وَمُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا فَإِنَّكُمْ تُسْأَلُونَ عَنْهَا فِي قُبُورِكُمْ» ) .
قَالَ السُّيُوطِيُّ: فِي سَنَدِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ.

✩✩✩✩✩✩✩

10 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

pregnancy nutrition

10 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : مَرَّ ذِكْرُهُ [ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِي) ] أَيْ: وَاللَّهِ الَّذِي [ (نَفْسُ مُحَمَّدٍ) ] أَيْ رُوحُهُ، وَذَاتُهُ، وَصِفَاتُهُ، وَحَالَاتُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَحَرَكَاتُهُ، وَسَكَنَاتُهُ [ (بِيَدِهِ) ] أَيْ كَائِنَةٌ بِنِعْمَتِهِ، وَحَاصِلَةٌ بِقُدْرَتِهِ، وَثَابِتَةٌ بِإِرَادَتِهِ، وَوَجْهُ اسْتِعَارَةِ الْيَدِ لِلْقُدْرَةِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَظْهَرُ سُلْطَانُهَا فِي أَيْدِينَا، وَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِيهَا تَفْوِيضُ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَسْلَمُ حَذَرًا مِنْ أَنْ يُعَيَّنَ لَهُ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُهُ وَقْفُ الْجُمْهُورِ عَلَى الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَعَدُّوهُ وَقْفًا لَازِمًا، وَهُوَ مَا فِي وَصْلِهِ إِيهَامُ مَعْنًى فَاسِدٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ مَا أَثْبَتَهُ تَعَالَى لِنَفَسِهِ، وَبِهَا الَّذِي يَنْبَغِي الْإِيمَانُ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا أَرَادَهُ، وَلَا يُشْتَغَلُ بِتَأْوِيلِهِ فَنَقُولُ: لَهُ يَدٌ عَلَى مَا أَرَادَهُ لَا كَيَدِ الْمَخْلُوقِينَ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ فِيهَا تَأْوِيلُهُ بِمَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْجِسْمِ وَالْجِهَةِ وَلَوَازِمِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى ” الرَّاسِخُونَ ” فِي الْعِلْمِ.
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ” أَنَا أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، وَأَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.
قِيلَ: وَهَذَا أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ أَيْ: يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ حَتَّى يُطَابِقَ التَّأْوِيلُ سِيَاقَ ذَلِكَ النَّصِّ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ مَذْهَبَ الْخَلَفِ أَكْثَرُ عِلْمًا، فَالْمَذْهَبَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَوْلَى مَاذَا، أَهُوَ التَّفْوِيضُ أَمِ التَّأْوِيلُ؟ وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْخِلَافِ عَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَكَانَ التَّفْوِيضُ فِي زَمَانِ السَّلَفِ أَوْلَى؛ لِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ الْبِدَعِ فِي زَمَانِهِمْ، وَالتَّأْوِيلُ فِي زَمَانِ الْخَلَفِ أَوْلَى؛ لِكَثْرَةِ الْعَوَامِّ وَأَخْذِهِمْ بِمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْأَفْهَامِ، وَغُلُوِّ الْمُبْتَدَعَةِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
ثُمَّ هُوَ قَسَمٌ، جَوَابُهُ [ (لَا يَسْمَعُ بِي) ] : وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ: وَالَّذِي نَفْسِي، لَكِنَّهُ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ النَّفِيسَةَ مِنَ اسْمِهِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ هُوَ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ وَأَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ تَنْزِيلًا مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ إِلَى التَّفْرِقَةِ، وَمِنَ الْكَوْنِ مَعَ الْحَقِّ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ، وَالِانْتِقَالِ مِنْ خِزَانَةِ الْكَمَالِ إِلَى مَنَصَّةِ التَّكْمِيلِ.
قَالَ الْعَارِفُ السَّهْرَوَرْدِيُّ: الْجَمْعُ اتِّصَالٌ لَا يُشَاهِدُ صَاحِبُهُ إِلَّا الْحَقَّ، فَمَتَّى شَاهَدَ غَيْرَهُ فَمَا ثَمَّ جَمْعٌ، فَقَوْلُهُ: ” آمَنَّا بِاللَّهِ ” جَمْعٌ، وَ ” مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ” تَفْرِقَةٌ.
وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ، – وَيُسَمَّى سَيِّدَ الطَّائِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ قَطُّ بِمَا لَا يُطَابِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ -: الْقُرْبُ بِالْوَجْدِ جَمْعٌ، وَغَيْبَتُهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ تَفْرِقَةٌ، وَكُلُّ جَمْعٍ بِلَا تَفْرِقَةٍ زَنْدَقَةٌ، وَكُلُّ تَفْرِقَةٍ بِلَا جَمْعٍ تَعْطِيلٌ.
ثُمَّ قِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى ” مِنْ “، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا) أَوْ ضِمْنَ مَعْنَى الْإِخْبَارِ أَيْ: مَا يَسْمَعُ مُخْبِرًا بِبَعْثِي، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى لَا يَعْلَمُ رِسَالَتِي [ (أَحَدٌ) ] أَيْ: مِمَّنْ هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ سَيُوجَدُ ” [ (مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ) ] أَيْ: أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، وَ ” مِنْ ” تَبْعِيضِيَّةٌ، وَقِيلَ: بَيَانِيَّةٌ [ (يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ) ] : صِفَتَانِ لِـ ” أَحَدٌ ” – وَحُكْمُ الْمُعَطِّلَةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ يُعْلَمُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى – أَوْ بَدَلَانِ عَنْهُ، بَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَخُصَّا لِأَنَّ كُفْرَهُمَا أَقْبَحُ، وَعَلَى كُلٍّ لَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ [ (ثُمَّ يَمُوتُ) ] : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَلَوْ تَرَاخَى إِيمَانُهُ وَوَقَعَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ نَفَعَهُ [ (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) ] أَيْ: مِنَ الدِّينِ الْمَرْضِيِّ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَوْ عَطْفٌ [ (إِلَّا كَانَ) ] أَيْ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ بِمَعْنَى يَكُونُ، وَتَعْبِيرُهُ بِالْمُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ [ (مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) ] أَيْ مُلَازِمِيهَا بِالْخُلُودِ فِيهَا، وَأَمَّا الَّذِي سَمِعَ وَآمَنَ فَحُكْمُهُ عَلَى الْعَكْسِ، وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَسْمَعُ وَلَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْوَعِيدِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ” لَا ” فِي: ” لَا يَسْمَعُ ” بِمَعْنَى ” لَيْسَ “، وَ ” ثُمَّ يَمُوتُ ” عَطْفٌ عَلَى ” يَسْمَعُ ” الْمُثْبَتِ، ” وَلَمْ يُؤْمِنْ ” عَطْفٌ عَلَى يَمُوتُ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ وَلَيْسَ لِنَفْيِ هَذَا الْمَجْمُوعِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ بِهِ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ، أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ كَائِنًا مِنْ أَصْحَابِ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

✩✩✩✩✩✩✩

11 – وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمِهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا – فَلَهُ أَجْرَانِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

11 – (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : أَسْلَمَ بِمَكَّةَ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَدِمَ مَعَ أَهْلِ السَّفِينَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِخَيْبَرَ، وَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْبَصْرَةَ سَنَةَ عَشْرٍ، فَافْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَهْوَازَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ إِلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا فَانْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَقَامَ بِهَا، وَكَانَ وَالِيًا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، ثُمَّ انْتَقَلَ أَبُو مُوسَى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ: أَشْخَاصٌ، ” ثَلَاثَةٌ ” مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ [ (لَهُمْ أَجْرَانِ) ] أَيْ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَجْرَانِ عَظِيمَانِ مُخْتَصَّانِ بِهِ لَا مُشَارَكَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِمَا [ (رَجُلٌ) ] : بَدَلٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ بَدَلُ بَعْضٍ وَالْعَطْفُ بَعْدَ الرَّبْطِ، أَوْ بَدَلُ كُلٍّ وَالرَّبْطُ بَعْدَ الْعَطْفِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَحَدُهُمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَيْ: مِنْهُمْ، أَوْ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَ ” لَهُمْ أَجْرَانِ ” صِفَتُهُ، وَالْمَرْأَةُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ [ (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ) ] : خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَاخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النَّصْرَانِيُّ أَوِ الْيَهُودِيُّ أَيْضًا، وَإِلَى الْأَوَّلِ جَنَحَ صَاحِبُ ” الْأَزْهَارِ “، وَأَيَّدَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَمَالَ غَيْرَهُ إِلَى الثَّانِي، وَأَيَّدَهُ بِمُؤَيِّدَاتٍ نَقْلِيَّةٍ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ هَلْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْيَهُودِيَّةِ أَمْ لَا.
وَعَلَى كُلٍّ فَمَنْ كَذَّبَهُ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِنَبِيِّهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: يُؤَيِّدُ إِرَادَةَ الْإِنْجِيلِ وَحْدَهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ (فَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ) .
قُلْتُ: لَا يُؤَيِّدُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى عِيسَى إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةٍ هِيَ بُعْدُ بَقَاءِ مُؤْمِنٍ بِمُوسَى دُونَ عِيسَى مَعَ صِحَّةِ إِيمَانِهِ بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ دَعْوَةُ عِيسَى إِلَى بِعْثَةِ نَبِيِّنَا فَآمَنَ بِهِ، وَهَذَا وَإِنِ اسْتُبْعِدَ وَجُودُهُ لَكِنْ فِي حَمْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا يَشْمَلُهُ فَائِدَةٌ هِيَ أَنَّ الْيَهُودَ مَنْ بَنَى إِسْرَائِيلَ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُ دَعْوَةُ عِيسَى يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَهُودِيٌّ مُؤْمِنٌ بِنَبِيِّهِ مُوسَى وَلَمْ يُكَذِّبْ نَبِيًّا آخَرَ بَعْدَهُ، فَإِذَا أَدْرَكَ بَعْثَةَ نَبِيِّنَا وَآمَنَ بِهِ تَنَاوَلَهُ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَالْأَجْرُ الْمَسْطُورُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَرَبٌ نَحْوَ الْيَمَنِ مُتَهَوِّدُونَ وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ عِيسَى لِاخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِجْمَاعًا دُونَ غَيْرِهِمْ، فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ ذِهْنًا فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِالْعُمُومِ الْآيَةُ النَّازِلَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَشْبَاهِهِ، وَهِيَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيَّ، وَفِيمَنْ آمَنَ بِي.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ وَابْنِ سَلَامٍ، وَلَا تَنَافِي فِي أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَالثَّانِيَ كَانَ يَهُودِيًّا.
فَإِنْ قُلْتَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِعِيسَى فَكَيْفَ اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَيْنِ؟ قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَحَاشَا مِثْلَ ابْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ مَعَ سَعَةِ عُلُومِهِمْ وَكَمَالِ عُقُولِهِمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِعِيسَى، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَالْمُرَادُ مَنْ آمَنَ بِنَبِيِّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بِأَنْ يُؤْمِنَ الْيَهُودِيُّ بِمُوسَى – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِ شَرْعِهَا بِالْإِنْجِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ، وَإِلَّا فَقَبْلَ نَسْخِهِ بِشَرِيعَتِنَا، وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ بِعِيسَى – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَلِمَ رِسَالَتَهُ إِلَيْهِ قَبْلَ نَسْخِ شَرْعِهِ بِشَرِيعَتِنَا، وَإِنَّمَا قَيَّدُوا بِمَا قَبْلَ النَّسْخِ وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ غَيْرِهِ النَّاسِخَةِ لَهُ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَقِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْيِيدِ إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ طَرُوُّ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّنَا – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – سَبَبًا لِثَوَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ السَّابِقِ ; كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ فِي الْكُفْرِ اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] وَكَذَا كِتَابُهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – إِلَى هِرَقْلَ: ( «أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ» ) .
وَقَوْمُهُ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْلَامِهِ وَمِنْ جِهَةِ أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ سَبَبًا لِإِسْلَامِ أَتْبَاعِهِ.
[ (وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ) ] أَيْ إِيمَانًا صَحِيحًا أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: ” وَبِمُحَمَّدٍ ” مَعَ أَنَّهُ أَخْصَرُ؛ لِلْإِشْعَارِ بِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنَ النَّبِيِّينَ بِالْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ التَّبَعِيَّةِ، ثُمَّ الْإِيمَانُ بِهِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِيمَانَهُ السَّابِقَ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ حَقًّا [ (وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ) ] : وُصِفَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ لَا مُطْلَقَ الْعَبْدِ، إِذْ جَمِيعُ النَّاسِ عِبَادُ اللَّهِ [ (إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ) ] مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَنَحْوِهِمَا [ (وَحَقَّ مَوَالِيهِ) ] أَيْ أَسْيَادَهُ وَمُلَّاكَهُ وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِ، مِنْ خِدْمَتِهِمُ الْجَائِزَةِ جُهْدَهُ وَطَاقَتَهُ، وَجَمَعَ الْمَوَالِي لِأَنَّ ” أَلْ ” فِي الْعَبْدِ لِلْجِنْسِ، فَلِكُلِّ عَبْدٍ مَوْلًى عِنْدَ التَّوْزِيعِ، أَوْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ حُقُوقَ جَمِيعِهِمْ فَيُعْلَمُ الْمُنْفَرِدُ بِالْأَوْلَى، أَوْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ مَوَالِيهِ بِالْمُنَاوَبَةِ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فَيَقُومُ بِحَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ، [ (وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا) ] أَيْ: يُجَامِعُهَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ أَنَّهُ مَعَ هَذَا أَيْضًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ فِي تَرْبِيَتِهَا، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ وُقُوعَ الْوَطْءِ بِالْفِعْلِ، بَلْ بِالْقُوَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ إِسْقَاطُهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَهِيَ: «إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا – كَانَ لَهُ أَجْرَانِ» [ (فَأَدَّبَهَا) ] أَيْ عَلَّمَهَا الْخِصَالَ الْحَمِيدَةَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الْخِدْمَةِ؛ إِذِ الْأَدَبُ هُوَ حُسْنُ الْأَحْوَالِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَحُسْنُ الْأَخْلَاقِ [ (فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا) ] بِأَنْ يَكُونَ بِلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ [ (وَعَلَّمَهَا) ] : مَا لَا بُدَّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لَهَا [ (فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا) ] : بِتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ [ (ثُمَّ أَعْتَقَهَا) ] أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّهِ [ (فَتَزَوَّجَهَا) ] تَحْصِينًا لَهُ، وَرَحْمَةً عَلَيْهَا [ (فَلَهُ) ] أَيْ فَلِلرَّجُلِ الْأَخِيرِ [ (أَجْرَانِ) ] أَجْرٌ عَلَى عِتْقِهِ، وَأَجْرٌ عَلَى تَزَوُّجِهِ، كَذَا قَالُوهُ، وَقِيلَ: أَجْرٌ عَلَى تَأْدِيبِهِ وَمَا بَعْدَهُ، وَأَجْرٌ عَلَى عِتْقِهِ وَمَا بَعْدَهُ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ فَائِدَةُ الْعَطْفِ، ثُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ، قِيلَ: وَفِي تَكْرِيرِ الْحُكْمِ اهْتِمَامٌ بِشَأْنِ الْأَمَةِ وَتَزَوُّجِهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِي (فَلَهُ) إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ لِطُولِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ كَالْفَذْلَكَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 89] الْآيَةَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي أَوْ نِسْيَانِهِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْأَمَةِ ” فَلَهُ أَجْرَانِ ” دُونَ مَا سَبَقَ تَأْكِيدًا لِحَالِهَا، فَإِنَّ مَا يُوجِبُ الْأَجْرَيْنِ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ جَائِزُ التَّرْكِ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَالتَّزَوُّجُ، فَاحْتِيجَ إِلَى التَّأْكِيدِ لِئَلَّا يُتْرَكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ إِشْعَارًا بِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْأَجْرَيْنِ مُخْتَصًّا بِالْأَمَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ الْإِعْتَاقُ وَالتَّزَوُّجُ، فَلِذَا ذُكِرَ عَقِيبَهُمَا ” فَلَهُ أَجْرَانِ ” بِخِلَافِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ، فَإِنَّهُمَا مُوجِبَانِ لِلْأَجْرِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَوْلَادِ، وَجَمِيعُ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْإِمَاءِ، وَمِنْ ثَمَّةَ اتَّجَهَ سِيَاقُ الشَّعْبِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَزَوِّجَ لِعَتِيقَتِهِ كَالرَّاكِبِ لِبَدَنَتِهِ أَيْ: فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ تَفْسِيرِهِمُ الْأَجْرَيْنِ بِوَاحِدٍ عَلَى الْعِتْقِ وَآخَرَ عَلَى التَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُحْسِنًا إِلَيْهَا إِحْسَانًا أَعْظَمَ بَعْدَ إِحْسَانٍ أَعْظَمَ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ تَخْلِيصٌ مِنْ قَهْرِ الرِّقِّ وَأَسْرِهِ، وَالثَّانِي فِيهِ التَّرَقِّي إِلَى إِلْحَاقِ الْمَقْهُورِ بِقَاهِرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الزَّوْجَاتِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعِلَّةُ فِي تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَالْحَالُ أَنَّ غَيْرَهُمْ أَيْضًا كَذَلِكَ مِثْلَ مَنْ صَامَ وَصَلَّى، فَإِنَّ لِلصَّلَاةِ أَجْرًا وَلِلصَّوْمِ أَجْرًا، وَكَذَا مِثْلَ الْوَلَدِ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ وَالِدِهِ؟ قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ جَامِعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةٌ عَظِيمَةٌ كَأَنَّ الْفَاعِلَ لَهُمَا فَاعِلٌ لِلضِّدَّيْنِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الضِّدِّيَّةَ بِعَيْنِهَا مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْوَالِدِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَأَمْثَالُهَا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ لِذِكْرِهَا نَفْيُ مَا عَدَاهَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلِذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِي مَعْنَيَيْنِ مِنْ أَيِّ فِعْلٍ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الطَّوَائِفَ الثَّلَاثَةَ لِكُلٍّ مِنْهَا أَجْرَانِ بِسَبَبِ عَمَلٍ وَاحِدٍ، بِشَرْطِ مُقَارَنَةِ عَمَلٍ آخَرَ، فَالَّذِي آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ لَهُ أَجْرَانِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّنَا، لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ، وَالْعَبْدُ الْمَولَى لَهُ أَجْرَانِ بِسَبَبِ أَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَدَاءِ حَقِّ مَوْلَاهُ، تَأَمَّلْ اهـ.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَأَنَّ الْأَجْرَيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانَيْنِ وَأَدَاءِ الْحَقَّيْنِ، فَالْوَجْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَسْخِ الْأَدْيَانَ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ لَا ثَوَابَ لِأَصْحَابِهَا مُطْلَقًا – دَفَعَهُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَكَذَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ ثَوَابَ عِبَادَةِ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ، فَلِذَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، وَرُبَّمَا كَانَ يُقَالُ: إِنَّ إِعْتَاقَ الْجَارِيَةِ وَتَزَوُّجَهَا لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَهُوَ طَبْعٌ، فَلَا يَكُونُ فِيهِمَا أَجْرٌ، فَرَفَعَهُ وَبَالَغَ فِيهِ وَقَالَ: لَهُ أَجْرَانِ، أَوْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ مُمْتَنِعًا مِنَ الْعَمَلِ الثَّانِي فَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْفِعْلِ بِقَوْلِهِ: لَهُمْ أَجْرَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِيلَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُضَمَّ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ لَهُنَّ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِنَّ، وَمَا هُنَا عَامٌّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
بِلَفْظِ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ» .

✩✩✩✩✩✩✩

12 – وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ.
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ.

Success Habits

12 – (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) : مَرَّ ذِكْرُهُ [قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُمِرْتُ) ] : لَمْ يَذْكُرِ الْآمِرَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ أَمَرَنِي رَبِّي بِالْوَحْيِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ [ (أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ) ] أَيْ: بِأَنْ أُجَاهِدَهُمْ وَأُحَارِبَهُمْ.
فَـ ” أَنْ ” مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْأَمْرِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ [ (حَتَّى يَشْهَدُوا) ] وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يَقُولُوا [ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) ] أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ عَبْدَةُ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُمُ السَّيْفُ إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – أَوْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيُّ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا عَلَى رِوَايَةٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ الْأَعَمُّ، لَكِنْ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْآيَةِ.
قِيلَ: وَهُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي ” الشَّامِلِ “: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فُرِضَ عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَالتَّبْلِيغُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ثُمَّ فُرِضَ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ، وَفُرِضَ الصَّوْمُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْحَجُّ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقِيلَ بَعْدَ الصِّيَامِ، وَقِيلَ قَبْلَهُ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِمَكَّةَ، وَأُذِنَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ لِمَنِ ابْتَدَأَ بِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَهُمْ بِهِ دُونَ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُبِيحَ ابْتِدَاؤُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْحَرَمِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَتَّى غَايَةٌ لِـ ” أُمِرْتُ ” أَوْ ” أُقَاتِلَ ” وَهُوَ أَوْلَى، أَيْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَا لَمْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُعْقَدْ لَهُمْ أَمَانٌ أَوْ هُدْنَةٌ إِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى اهـ.
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَوْلَى، خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ تَتَعَيَّنُ لِلْمُقَاتَلَةِ الْقَابِلَةِ لِلِاسْتِمْرَارِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْأَمْرِ؛ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ [ (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) ] أَيِ الْمَفْرُوضَةَ، بِأَنْ يَأْتُوا بِشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.
قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ بِشَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ فِي الْفِقْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُقَاتَلَةِ لَا فِي الْقَتْلِ، وَمُقَاتَلَةُ الْإِمَامِ لِتَارِكِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِتَرْكِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ.
[ (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) ] : وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَفْرُوضَةً، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِقِتَالِ مَانِعِيهَا، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَتَّى يَقْبَلُوا فَرْضِيَّتَهُمَا، ثُمَّ قِيلَ: أَرَادَ الْخَمْسَةَ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا خُصَّتَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أُمُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَأَسَاسُهُمَا، وَالْعُنْوَانُ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَلِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِمَادَ الدِّينِ، وَالزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ، وَقُرِنَ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، أَوْ لِكِبَرِ شَأْنِهِمَا عَلَى النُّفُوسِ لِتَكَرُّرِهِمَا، أَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ مَفْرُوضَيْنِ حِينَئِذٍ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى يُسْلِمُوا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ ( «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ» ) ؛ وَلِهَذَا حُذِفَتَا فِي رِوَايَةٍ اسْتِغْنَاءً عَنْهُمَا بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ، وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الشَّهَادَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَخْلِيَةِ لَوْحِ الْقَلْبِ عَنِ الشِّرْكِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَسَائِرِ النُّقُوشِ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيَّةِ، ثُمَّ تَحْلِيَتُهُ بِالْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ، وَالْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ الْحَقِّيَّةِ، وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ اللَّهَ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ، وَنَفَى غَيْرَهُ، وَصَدَّقَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ بِنَعْتِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ – فَقَدَ وَفَى بِعُهْدَةِ عَهْدِهِ، وَبَذَلَ غَايَةَ جَهْدِهِ فِي بِدَايَةِ جَهْدِهِ، وَآمَنَ بِجَمِيعِ مَا وَجَبَ مِنَ الْكُتُبِ، وَالرُّسُلِ، وَالْمَعَادِ، وَلِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَعْدَادِ سَائِرِ الْأَعْدَادِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِرْشَادٌ إِلَى تَرْكِ الرَّاحَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِتْعَابِ الْآلَاتِ الْجَسَدِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي إِذَا وُجِدَتْ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهَا الْبَوَاقِي، وَلِذَا اسْتَغْنَى عَنْ عَدِّهَا وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْفُضُولِ الْمَالِيَّةِ، بَلْ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَهْمِيٍّ بِالْمَوْجُودِ الْحَقِيقِيِّ، وَبَذْلُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ؛ لِاسْتِفْتَاحِ أَبْوَابِ الْفُتُوحِ، وَاللَّامُ فِيهِمَا لِلْعَهْدِ أَوْ، لِلْجِنْسِ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ الرَّجُلُ كَأَنَّ مَا عَدَا صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ لَيْسَ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً.
[ (فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ) ] أَيِ الْمَذْكُورَ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَيُسَمَّى الْقَوْلُ فِعْلًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ اللِّسَانِ، أَوْ تَغْلِيبًا [ (عَصَمُوا) ] بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ: حَفِظُوا وَمَنَعُوا [ (مِنِّي) ] أَيْ مِنْ أَتْبَاعِي أَوْ مِنْ قِبَلِي وَجِهَةِ دِينِي [ (دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) ] أَيِ اسْتِبَاحَتَهُمْ بِالسَّفْكِ وَالنَّهْبِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ [ (إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ) ] أَيْ دِينِهِ، وَالْإِضَافَةُ لَامِيَّةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِهْدَارُ دِمَائِهِمْ وَاسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِيفَاءِ قَصَاصِ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، إِذَا قُتِلَ أَوْ قُطِعَ، وَمِنْ أَخْذِ مَالٍ إِذَا غُصِبَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَقَتْلٍ لِنَحْوِ زِنَا مُحْصَنٍ، وَقَطْعٍ لِنَحْوِ سَرِقَةٍ، وَتَغْرِيمِ مَالٍ لِنَحْوِ إِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ الْمُحْتَرَمِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِحَذْفِ مَوْصُوفٍ، أَيْ إِلَّا دِمَاءً أَوْ أَمْوَالًا مُلْتَبِسَةً بِحَقٍّ، [وَحِسَابُهُمْ] أَيْ فِيمَا يَسْتُرُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بَعْدَ ذَلِكَ [عَلَى اللَّهِ] ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَزَاءِ الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا نَحْكُمُ بِظَاهِرِ الْحَالِ وَالْإِيمَانِ الْقَوْلِي، وَنَرْفَعُ عَنْهُمْ مَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَنُؤَاخِذُهُمْ بِحُقُوقِ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ حَالِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى حِسَابَهُمْ، فَيُثِيبُ الْمُخْلِصَ، وَيُعَاقِبُ الْمُنَافِقَ، وَيُجَازِي الْمُصِرَّ بِفِسْقِهِ، أَوْ يَعْفُو عَنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ يُقْبَلُ إِسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ، وَهُوَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ أَوْ يُطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى كُفْرٍ كَانَ يُخْفِيهِ، فَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ وَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، لَكِنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ مِنْهُ مَرَّةً فَقَطْ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ السَّيْفِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيَةً لِلضَّلَالِ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْقِتَالَ وَالْعِصْمَةَ إِنَّمَا هُمَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْأُخْرَوِيَّةُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَكَمِّيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا دَخْلَ لَنَا فِيهِ اهـ.
وَقَدْ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحِسَابَ كَالْوَاجِبِ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَقِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا بِحَسَبِ وَعْدِهِ تَعَالَى بِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ لَا أَنَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ وُجُوبَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَقْلًا، ثُمَّ الْحِسَابُ مَصْدَرٌ كَالْمُحَاسَبَةِ، وَهُوَ الْعَدُّ.
قِيلَ: وَمَعْنَى حِسَابِهِمْ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ يُعْلِمُهُمْ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَخْلُقَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ فِي قُلُوبِهِمْ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ، وَبِمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حِسَابَ عَلَى الْخَلْقِ، بَلْ يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَيُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، فَيُقَالُ: قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْهَا، ثُمَّ يُعْطَوْنَ حَسَنَاتِهِمْ فَيُقَالُ: قَدْ ضَاعَفْتُهَا لَكُمْ، فَيَكُونُ مَجَازًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ الْحِسَابَ سَبَبٌ لِحُصُولِ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ إِذِ الْحِسَابُ سَبَبٌ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] وَمَعْنَى سُرْعَتِهِ أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتَقِرَ فِي إِحْدَاثِ شَيْءٍ إِلَى فِكْرٍ، وَرَوِيَّةٍ، وَمُدَّةٍ، وَعُدَّةٍ؛ وَلِذَا وَرَدَ أَنَّهُ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي مِقْدَارِ حَلْبَةِ شَاةٍ أَوْ فِي لَمْحَةٍ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيِ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى رِوَايَةِ جَمِيعِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ: [إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ] : لَكِنَّهُ مُرَادٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة: 5] أَيْ عَنِ الْكُفْرِ بِإِتْيَانِ الشَّهَادَتَيْنِ {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ، أَيْ مَعْنَوِيٌّ، بِلَفْظِ: ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ) ، وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَحَسَّنَهُ ” ( «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا) قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: (زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ» بِهَا) اهـ.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ، وَرَدٌّ بَلِيغٌ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَدَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُقِرِّينَ بِالتَّوْحِيدِ الْمُلْتَزِمِينَ لِلشَّرَائِعِ.

✩✩✩✩✩✩✩

13 – وَعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ( «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

golf336

13 – (وَعَنْ أَنَسٍ) مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّهُ) هُوَ ثَابِتٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا) أَيْ كَمَا نُصَلِّي، وَلَا تُوجَدُ إِلَّا مِنْ مُوَحِّدٍ مُعْتَرِفٍ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَنِ اعْتَرَفَ بِهِ فَقَدِ اعْتَرَفَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ، فَلِذَا جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَمًا لِإِسْلَامِهِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّهَادَتَيْنِ لِدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، (وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا) : إِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ أَعْرَفُ، إِذْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ قِبْلَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّ فِي صَلَاتِنَا مَا يُوجَدُ فِي صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَاسْتِقْبَالُ قِبْلَتِنَا مَخْصُوصٌ بِنَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَرْكَانِ اكْتِفَاءً بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ، أَوْ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِ تِلْكَ الْفَرَائِضِ عَنْ زَمَنِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ لَمَّا مُيِّزَ الْمُسْلِمُ عَنْ غَيْرِهِ عِبَادَةً ذَكَرَ مَا يُمَيِّزُهُ عِبَادَةً وَعَادَةً بِقَوْلِهِ: (وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا) ; فَإِنَّ التَّوَقُّفَ عَنْ أَكْلِ الذَّبَائِحِ كَمَا هُوَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَكَذَلِكَ مِنَ الْعَادَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَاتِ، وَالذَّبِيحَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَالتَّاءُ لِلْجِنْسِ كَمَا فِي الشَّاةِ (فَذَلِكَ) أَيْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الثَّلَاثَةَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (الْمُسْلِمُ) ، أَوْ صِفَتُهُ وَخَبَرُهُ (الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ) أَيْ أَمَانُهُمَا وَعَهْدُهُمَا مِنْ وَبَالِ الْكُفَّارِ، وَمَا شُرِعَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَغَيْرِهِمَا، أَيْ يَرْتَفِعُ عَنْهُ هَذَا، وَكَرَّرَ لَفْظَةَ (ذِمَّةُ) إِشْعَارًا بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ، وَأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَلَازِمَانِ؛ وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: ( «فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» ) مِنَ الْإِخْفَارِ أَيْ لَا تَخُونُوا اللَّهَ فِي عَهْدِهِ، وَلَا تَتَعَرَّضُوا فِي حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْمُسْلِمِ أَيْ فَلَا تَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، ” فِي ذِمَّتِهِ ” أَيْ مَا دَامَ هُوَ فِي أَمَانِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.

✩✩✩✩✩✩✩

14 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: «أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: ” تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» “.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

islamship banner

14 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ) أَيْ بَدَوِيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَعْرَابِ وَهُمْ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ كَمَا أَنَّ الْعَرَبَ هُمْ سُكَّانُ الْبَلَدِ (النَّبِيَّ) أَيْ جَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (فَقَالَ: دُلَّنِي) بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ أَرْشِدْنِي بِالدَّلَالَةِ (عَلَى عَمَلٍ) : صِفَتُهُ أَنَّهُ (إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةِ، أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ (قَالَ: تَعْبُدُ اللَّهَ) خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَوْ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِتَقْدِيرِ ” أَنْ “، وَلَمَّا حُذِفَتْ رُفِعَ الْفِعْلُ، وَقِيلَ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ مِنَ النَّصْبِ، أَوْ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ الْحَدَثِ كَمَا فِي: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعٌ الْمَحَلَّ بِالْخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ، يَعْنِي الْعَمَلَ الَّذِي إِذَا عَمِلْتَهُ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ إِلَخْ.
ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ التَّوْحِيدُ لِلْعَطْفِ، وَالْأَصْلُ الْمُغَايَرَةُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِهَا، فَذِكْرُهُ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِهَا، وَقِيلَ: السَّائِلُ كَانَ مُؤْمِنًا، فَذَكَرَهُ لِشَرَفِهِ وَكَوْنِهِ أَصْلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (وَلَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا) أَيْ مِنَ الْأَشْيَاءِ، أَوْ مِنَ الشِّرْكِ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ غَيْرَ مُشْرِكٍ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِبَادَةِ التَّوْحِيدُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُفِيدُ التَّأْكِيدَ، وَعَلَى الثَّانِي قِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَهُ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفًى} [الزمر: 3] وَبَيَانًا إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكْمُلُ إِلَّا إِذَا سَلَمَتْ مِنْ طُرُقِ الرِّيَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] قَالَ الْعَارِفُونَ: التَّعَبُّدُ إِمَّا لِنَيْلِ الثَّوَابِ، أَوِ التَّخَلُّصِ مِنَ الْعِقَابِ، وَهِيَ أَنْزَلُ الدَّرَجَاتِ، وَتُسَمَّى عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْبُودَهُ فِي الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ، بَلْ نَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ إِجْمَاعَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ عِبَادَتِهِ.
أَوْ لِلتَّشَرُّفِ بِخِدْمَتِهِ تَعَالَى وَالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَتُسَمَّى عُبُودِيَّةٌ، وَهِيَ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ خَالِصَةً لَهُ، أَوْ لِوَجْهِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ شَيْءٍ آخَرَ، وَتُسَمَّى عُبُودَةٌ، وَهِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعُ الْحَالَاتِ (وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ) أَيِ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى الْأَعْيَانِ بِشَرَائِطِهَا، وَأَرْكَانِهَا الْمَعْلُومَةِ (وَتُؤَدِّي) أَيْ تُعْطِي (الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ) : وَالتَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا لِلتَّفَنُّنِ، وَهِيَ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْأُولَى فَإِنَّهَا احْتِرَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَدَاءُ مِقْدَارِهَا الْمُعَيَّنَةِ لِمَصَارِفِهَا الْمُقَرَّرَةِ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ شَيْئًا، وَقِيلَ: قَصَدَ بِهِ التَّصْدِيقَ وَالْمُبَالَغَةَ وَالْقَبُولَ أَيْ قَبِلْتُ قَوْلَكَ فِيمَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَبُولًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّؤَالِ، وَلَا نَقْصَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَبُولِ.
وَهَذَا قَبْلَ مَشْرُوعِيَّةِ النَّوَافِلِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا فَإِنَّهَا مُتَمِّمَاتٌ وَمُكَمِّلَاتٌ لِلْفَرَائِضِ، لَا زِيَادَةٌ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْحَجَّ وَلَا الصَّوْمَ فِي رِوَايَةٍ، وَلَا الزَّكَاةَ فِي أُخْرَى، وَلَا الْإِيمَانَ فِي أُخْرَى، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ، وَفِي بَعْضِهَا أَدَاءَ الْخُمُسِ.
وَأَجَابَ ابْنُ الصَّلَاحِ كَالْقَاضِي عِيَاضٍ بِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَفَاوُتُ الرُّوَاةِ حِفْظًا وَإِتْقَانًا.
(فَلَمَّا وَلَّى) أَيْ أَدْبَرَ الْأَعْرَابِيُّ وَذَهَبَ (قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ سَرَّهُ) أَيْ أَوْقَعَهُ فِي السُّرُورِ وَأَعْجَبَهُ، وَالْفَاعِلُ هُوَ (أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ) جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ مُتَضَمَّنُهُ (إِلَى هَذَا) أَيْ هَذَا الرَّجُلِ؛ لِعَزْمِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، فَعَلَى مَنْ أَرَادَ اللُّحُوقَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُصَمِّمَ عَلَى مَا صَمَّمَ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ مِنَ النَّاجِينَ، وَلِيُحْشَرَ مَعَ السَّابِقِينَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْفَرْدِ الْجِنْسِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ إِلَى الْفَرْدِ الشَّخْصِيِّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيَكُونُ الْعِلْمُ إِمَّا بِالْوَحْيِ أَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

✩✩✩✩✩✩✩

15 – وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ – وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ – قَالَ: ” قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» “.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

golf336

15 – (وَعَنْ سُفْيَانَ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ وَالضَّمُّ هُوَ الْمَشْهُورُ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ ابْنِ رَبِيعَةَ (الثَّقَفِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ ثَقِيفٍ، يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو، وَقِيلَ أَبَا عَمْرَةَ، يُعَدُّ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى الطَّائِفِ، مَرْوِيَّاتُهُ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ فِيمَا يَكْمُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَيُرَاعَى بِهِ حُقُوقُهُ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَوَابِعِهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فِي مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ وَغَايَاتِهِ (قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ) أَيْ قَوْلًا جَامِعًا لَا أَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سُؤَالِ أَحَدٍ بَعْدَ سُؤَالِكِ هَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] أَيْ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ (- وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ -) أَيْ لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، وَالْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا بَعْدَ سُؤَالِهِ لَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ، وَكَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ الْأَوَّلِ فَجَعَلَهُ أَصْلًا، وَالثَّانِي رِوَايَةٌ خِلَافًا لِمَا فَعَلَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ (قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ) أَيْ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (ثُمَّ اسْتَقِمْ) هَذَا مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] يَعْنِي عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] الْآيَاتِ.
فَالتَّوْحِيدُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَالطَّاعَةُ بِأَنْوَاعِهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: (ثُمَّ اسْتَقِمْ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ امْتِثَالُ كُلِّ مَأْمُورٍ وَاجْتِنَابُ كُلِّ مَحْذُورٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، إِذْ لَا تَحْصُلُ الِاسْتِقَامَةُ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الِاعْوِجَاجِ، وَلِذَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الِاسْتِقَامَةُ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ كَرَامَةٍ، أَوْ نَقُولُ آمَنْتُ بِاللَّهِ شَامِلٌ لِلْإِتْيَانِ بِكُلِّ الطَّاعَاتِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَقِمْ مَحْمُولٌ عَلَى الثَّبَاتِ فِيهِمَا، وَلِعَظَمَةِ أَمْرِ الِاسْتِقَامَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» ) ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَهِيَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ.
وَقَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ مَعَ كَوْنِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَمْرٌ صَعْبٌ لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا كَانَ الدَّاعِي عَلَى بَصِيرَةٍ يَرَى أَنَّهُ يَدْعُوهُ مِنِ اسْمٍ إِلَى اسْمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ آيَةٌ كَانَتْ أَشَدَّ وَلَا أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَلِذَا قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لَمَّا قَالُوا لَهُ: قَدْ أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ: ( «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» ) .
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ أَمْرٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ لِشُمُولِهَا الْعَقَائِدَ بِأَنْ يَجْتَنِبَ التَّشْبِيهَ وَالتَّعْطِيلَ، وَالْأَعْمَالَ بِأَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالْأَخْلَاقَ بِأَنْ يَبْعُدَ عَنْ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الصِّرَاطِ فِي الدُّنْيَا صَعْبٌ كَالْمُرُورِ عَلَى صِرَاطِ جَهَنَّمَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ اهـ.
وَمِمَّا يَزِيدُ صُعُوبَةَ هَذَا الْمَرْقَى خَبَرُ (اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا) أَيْ وَلَنْ تَطِيقُوا أَنْ تَسْتَقِيمُوا حَقَّ الِاسْتِقَامَةِ، وَلَكِنِ اجْتَهِدُوا فِي الطَّاعَةِ حَقَّ الْإِطَاعَةِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَظُنُّ بِنَفْسِهِ الِاسْتِقَامَةَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ صِفَةِ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، فَيَقَعُ فِي الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَقْبَحُ مِنْ كُلِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَلَامَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ.
وَقَدْ يُقَالُ: السِّينُ لِطَلَبِ الْقِيَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ فِي جَمِيعِ السَّاعَاتِ إِلَى الْمَمَاتِ، ثُمَّ قَدْ يُقَالُ: الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ الْإِطَاقَةِ عَلَى دَوَامِ الْإِطَاعَةِ أَنَّ تُرَابَ الْإِنْسَانِ عُجِنَ بِمَاءِ النِّسْيَانِ النَّاشِئِ عَنْهُ الْعِصْيَانَ؛ وَلِذَا قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «كُلُّكُمْ خَطَّاءُونَ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» ) فَجِنْسُ الْإِنْسَانِ كَنَوْعِ النِّسْوَانِ الَّتِي خُلِقْنَ مِنَ الضِّلَعِ الْأَعْوَجِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُنَّ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى صِفَةِ الْإِدَامَةِ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلَا يَزُولُ طَبْعٌ عَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هَذَا، وَلَفْظَةُ (ثُمَّ) مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ أَفْضَلُ مِنْ قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ؛ لِشُمُولِهَا الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ.
ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْإِمَامُ، وَهِيَ لُغَةً ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ أَيِ الِاسْتِوَاءِ فِي جِهَةِ الِانْتِصَابِ، وَتَنْقَسِمُ إِلَى اسْتِقَامَةِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِي غَيْرِ مُتَعَدٍّ مِنْ مَنْهَجِ السُّنَّةِ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ عَنْ حَدِّ الْإِخْلَاصِ إِلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ رَجَاءِ الْعِوَضِ، أَوْ طَلَبِ الْغَرَضِ، وَاسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الصَّوَابِ، وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ هِيَ اسْتِوَاءُ الْقَصْدِ فِي السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ، وَثَبَاتُ الْقُوَى عَلَى حُدُودِهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ دُونَ الِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ فِي اللَّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ فِي الطَّرِيقِ وَالسُّلُوكِ إِلَيْهِ بِأَحَدَيْهِ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَأَمَّا السَّيْرُ فِي اللَّهِ فَهُوَ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِهِ، وَالِاسْتِقَامَةُ فِي اللَّهِ دُونَ الِاسْتِقَامَةِ فِي السَّيْرِ فِي اللَّهِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] ؛ لِأَنَّ تِلْكَ فِي مَقَامِ جَمْعِ الْجَمْعِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَالْأُولَى لِلْمُرِيدِينَ، وَالثَّانِيَةُ لِلْمُتَوَسِّطِينَ.
وَاسْتِقَامَةُ الرُّوحِ وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِّ وَالسِّرِّ، وَهِيَ الثَّبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الِاسْتِقَامَةُ دَرَجَةٌ بِهَا كَمَالُ الْأُمُورِ وَتَمَامُهَا، وَبِوُجُودِهَا حُصُولُ الْخَيْرَاتِ وَنِظَامُهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيمًا ضَاعَ سَعْيُهُ، وَخَابَ جَهْدُهُ، وَأَنْشَدَ: إِذَا أَفْشَيْتَ سِرَّكَ ضِيقَ صَدْرٍ
أَصَابَتْكَ الْمَلَامَةُ وَالنَّدَامَةُ وَإِنْ أَخْلَصْتَ يَوْمًا فِي فِعَالٍ
تَنَالُ جَزَاءَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا وُفِّقْتَ بِالتَّوْحِيدِ وَرُؤْيَةِ جَلَالِ قِدَمِهِ فَدُرْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ دَارَ، إِمَّا قَضَاءً وَإِمَّا رِضَاءً، وَلَا تَنْزِلْ عَنْ مَقَامِ الرِّضَا إِلَى فَتْرَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لِعِزَّةِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا فِي كُلِّ حَالَةٍ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلدُّعَاءَ بِالِاسْتِقَامَةِ أَمْرَ وُجُوبٍ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الِاسْتِقَامَةَ الشَّامِلَةُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ: (هَذَا) » .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَزَادَ فِي الْإِحْيَاءِ: «قُلْتُ: مَا أَتَّقِي؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ» .

✩✩✩✩✩✩✩

16 – وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفَقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ “.
فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ فَقَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ “.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ “، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: ” لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ “.
قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ “: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ “.
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» “.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

Business and Website Traffic

16 – (وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيَّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ بِالْجَنَّةِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا غَيْرَ بَدْرٍ، وَضَرَبَ لَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَهْمَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ بَعَثَهُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ يَتَعَرَّفَانِ خَبَرَ الْعِيرِ الَّتِي كَانَتْ لِقُرَيْشٍ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَعَادَا يَوْمَ اللِّقَاءِ بِبَدْرٍ، وَوَقَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَوْمَ أُحُدٍ بِيَدِهِ فَشُلَّتْ أُصْبُعُهُ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً، وَقِيلَ: كَانَتْ فِيهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – طَلْحَةَ الْخَيْرِ، وَطَلْحَةَ الْجُودِ، قُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَصْرَةِ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ.
(قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) : قِيلَ: هُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ (مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ) صِفَةُ رَجُلٍ، وَالنَّجْدُ فِي الْأَصْلِ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، ضِدُّ التِّهَامَةِ، وَهُوَ الْغَوْرُ، سُمِّيَتْ بِهِ الْأَرْضُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ تِهَامَةَ أَيْ مَكَّةَ، وَبَيْنَ الْعِرَاقِ.
(ثَائِرُ الرَّأْسِ) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنْ ثَارَ الْغُبَارُ إِذَا ارْتَفَعَ وَانْتَشَرَ، أَيْ مُنْتَشِرُ شَعَرِ الرَّأْسِ غَيْرُ مُرَجِّلِهِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ، أَوْ سُمِّيَ الشَّعَرُ رَأْسًا مَجَازًا، تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ الْمَحَلِّ، أَوْ مُبَالَغَةً بِجَعْلِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ الْمُنْتَشِرُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ رَجُلٍ لِوَصْفِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الرِّوَايَةُ (نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ) أَيْ شِدَّتَهُ وَبُعْدَهُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالذُّبَابِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ – وَضَمُّهُ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ – وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَ ” نَسْمَعُ ” بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْيَاءِ مَجْهُولًا، وَرَفْعِ دَوِيٍّ عَلَى النِّيَابَةِ، وَكَذَا الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا نَفْقَهُ) أَيْ لَا نَفْهَمُ مِنْ جِهَةِ الْبُعْدِ (مَا يَقُولُ) لِضَعْفِ صَوْتِهِ (حَتَّى دَنَا) أَيْ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، أَيْ إِلَى أَنْ قَرُبَ فَفَهِمْنَا (فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (هُوَ) أَيِ الرَّجُلُ (يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ) أَيْ عَنْ فَرَائِضِهِ الَّتِي فُرِضَتْ عَلَى مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، وَصَدَّقَ رَسُولَهُ لَا عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلِكَوْنِ السَّائِلِ مُتَّصِفًا بِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا: أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ؟ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَسْمَعْهَا الرَّاوِي أَوْ نَسِيَهَا، أَوِ اخْتَصَرَهَا لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حِكَايَةُ حَالِ الرَّجُلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ: عَلَيَّ، فَأَجَابَهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِمَا عَرَفَ مِنْ حَالِهِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ حِينَئِذٍ، أَوْ أُسْقِطَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ: فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيِ الْإِسْلَامُ، وَالْمُرَادُ فَرْضُهُ إِقَامَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ الْخَبَرَ أَيْ مِنْ شَرَائِعِهِ أَدَاءُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ بِتَقْدِيرِ خُذْ، أَوِ اعْمَلْ، أَوْ صَلِّ، وَهُوَ أَحْسَنُ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَأَعْرَبَ بِقَوْلِهِ بِالْجَرِّ بَدَلًا مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ بِقَسِيمَيْهِ أَيْ هُوَ أَوْ خُذْ اهـ.
وَالَّذِي اخْتَارَهُ مِنَ الْجَرِّ لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَظْهَرُ لَكَ مِنْ تَتَبُّعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا فِي كَلَامٍ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْمَقُولَ لَا يَكُونُ إِلَّا جُمْلَةً، فَأَحَدُ جُزْأَيْهِ الْمَوْجُودُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، وَأَنَّهُ إِذَا جُعِلَ بَدَلًا لَا يَبْقَى لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، فَلَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَقَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (هَلْ عَلَيَّ) أَيْ يَجِبُ مِنَ الصَّلَاةِ (غَيْرُهُنَّ؟) أَيْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، أَوِ الْجَارُّ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَغَيْرُهُنَّ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ (فَقَالَ) – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا) أَيْ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ غَيْرُهَا، وَهَذَا قَبْلَ وُجُوبِ الْوِتْرِ، أَوْ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ الْيَوْمِيَّةِ بَلْ هِيَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ السَّنَوِيَّةِ (إِلَّا أَنْ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (تَطَّوَّعَ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْوَاوِ، وَأَصْلُهُ تَتَطَوَّعَ بِتَاءَيْنِ، فَأُبْدِلَتْ وَأُدْغِمَتْ، وَرُوِيَ بِحَذْفِ إِحْدَاهَا وَتَخْفِيفِ الطَّاءِ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تَشْرَعَ فِي التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ إِتْمَامُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ.
وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هَذَا مُجَرَّدُ دَعْوَى بِلَا سَنَدٍ – مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ السَّنَدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ سَنَدٌ مُعْتَمَدٌ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ الْمَسْطُورِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الْحَنَفِيَّةَ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ الْإِتْمَامَ فَرْضٌ، وَهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِوُجُوبِهِ – مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْآيَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالدَّلَالَةُ ظَنِّيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَاسْتِثْنَاءُ الْوَاجِبِ مِنَ الْفَرْضِ مُنْقَطِعٌ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَنَا فَرْضٌ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَرْضٌ، فَالْمُرَادُ بِالْفَرْضِ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي جَعْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا لِصِحَّةِ الْكَلَامِ كَمَا اخْتَارَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَوْلُهُ: عَلَى أَنَّهُ مِنَ النَّفْيِ لَا يُفِيدُ الْإِثْبَاتَ بَلِ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَهُمْ مَدْخُولٌ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ لَوِ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ دَلِيلَهُمُ الْآيَةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا حَمَلُوا لَفْظَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْهُمَا، ثُمَّ هَذَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا حَيْثُ يَلْزَمُ النَّفْلُ بِالشُّرُوعِ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ الْفَرْقُ، وَإِلَّا فَيَكْفِينَا قِيَاسُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِمَا أَيْضًا، أَوِ الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ تُوجِبَ عَلَى نَفْسِكَ بِالنَّذْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَعَدَلَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: لَكِنَّ التَّطَوُّعَ مُسْتَحَبٌّ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَدْخُولٍ لَا مُنْقَطِعٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ إِتْمَامِ التَّطَوُّعِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ.
أَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَالْمَعْنَى لَكِنَّ التَّطَوُّعَ بِاخْتِيَارِكَ أَيِ ابْتِدَاءٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، أَوِ انْتِهَاءٌ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَاجِبَاتِ.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ) عَطْفٌ عَلَى خَمْسٍ، وَجُمْلَةُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مُعْتَرِضَةٌ (قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟) أَيْ هَلْ عَلَيَّ صَوْمٌ فَرْضٌ سِوَى صَوْمِ رَمَضَانَ (قَالَ) بِحَذْفِ الْفَاءِ فِي الْأُصُولِ الْحَاضِرَةِ (لَا) فَلَا يَجِبُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ رَمَضَانَ أَمْ لَا (إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ) أَيْ طَلْحَةُ (وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الزَّكَاةَ) هَذَا قَوْلُ الرَّاوِي، فَإِنَّهُ نَسِيَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَوِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ذَكَرَ الزَّكَاةَ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْأَلْفَاظِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، فَإِذَا الْتُبِسَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا يُشِيرُ فِي أَلْفَاظِهِ إِلَى مَا يُنْبِئُ عَنْهُ كَمَا فَعَلَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ (فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لَا) قِيلَ: يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ بِشُرُوطِهَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْحُقُوقُ الْأَصْلِيَّةُ الْمُتَكَرِّرَةُ تَكْرَارَهَا، وَإِلَّا فَحُقُوقُ الْمَالِ كَثِيرَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَنَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَالْأُضْحِيَّةِ (إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ) أَيْ طَلْحَةُ (فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ (يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا) أَيْ فِي الْإِبْلَاغِ أَوْ فِي نَفْسِ الْفَرِيضَةِ (وَلَا أَنْقُصُ عَنْهُ) أَيْ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْلَحَ الرَّجُلُ) أَيْ دَخَلَ فِي الْفَلَاحِ، وَالْمَعْنَى فَازَ وَظَفِرَ وَأَدْرَكَ بُغْيَتَهُ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الظَّفَرُ فَلَا يَطْلُبُ مَعَهُ الْحَيَاةَ وَالْأَسْبَابَ، وَأُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ.
قَالُوا: وَلَا كَلِمَةَ أَجْمَعُ لِلْخَيْرَاتِ مِنْهُ، وَمِنْ ثَمَّ فُسِّرَ بِأَنَّهُ بَقَاءٌ بِلَا فَنَاءٌ، وَغِنًى بِلَا فَقْرٍ، وَعِزٌّ بِلَا ذُلٍّ، وَعِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَفْلَحَ وَاللَّهِ.
وَفِي أُخْرَى صَحِيحَةٍ: بِلَا شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَفْلَحَ وَأَبِيهِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ قَبْلَ النَّهْيِ، وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ أَيْ وَرَبِّ أَبِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ، وَأَنَّ الْكَاتِبَ قَصَرَ اللَّامَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي غَيْرِ الشَّارِعِ كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجْرٍ فَضَعَّفَ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ جَمِيعَهَا، وَحَمَلَ عَلَى أَنَّ هَذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ (إِنْ صَدَقَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، أَيْ لِصِدْقِهِ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ قِيلَ: إِنَّمَا حَكَمَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُطْلَقًا فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُنَا عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِصِدْقِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ بِحُضُورِ الْأَعْرَابِيِّ لِئَلَّا يَغْتَرَّ فَيُشْكِلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا ذَهَبَ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ إِلَخْ.
وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ، ثُمَّ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَكُونَ مُفْلِحًا؛ لِأَنَّ الْمُفْلِحَ هُوَ النَّاجِي مِنَ السَّخَطِ وَالْعَذَابِ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُفْلِحًا، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ – الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 – 2] الْآيَاتِ.
وَقَالَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] الْآيَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

✩✩✩✩✩✩✩

17 – وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: «إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” مَنِ الْقَوْمُ؟ أَوْ: مَنِ الْوَفْدُ؟ ” قَالُوا: رَبِيعَةُ.
قَالَ: ” مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ – أَوْ: بِالْوَفْدِ – غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنَّ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُهُ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ؛ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ) .
وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَقَالَ: (احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ) » .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.

Success rituals

17 – (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأُمُّهُ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: عَشْرٍ.
كَانَ حَبْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَالِمَهَا، وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِالْحِكْمَةِ، وَالْفِقْهِ، وَالتَّأْوِيلِ، وَرَأَى جِبْرِيلَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُقَرِّبُهُ وَيُشَاوِرُهُ بَيْنَ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةُ، وَكُفَّ بَصَرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
(قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ) الْوَفْدُ: جَمْعُ وَافِدٍ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى إِلَى الْأَمِيرِ بِرِسَالَةٍ مِنْ قَوْمٍ، وَقِيلَ: رَهْطٌ كِرَامٌ.
وَعَبَدُ الْقَيْسِ أَبُو قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ تَنْتَهِي إِلَى رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ بْنِ عَدْنَانَ، وَرَبِيعَةُ قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي مُقَابَلَةِ مُضَرَ، وَكَانَ قَبِيلَةُ عَبْدِ الْقَيْسِ يَنْزِلُونَ الْبَحْرَيْنِ وَحَوَالَيِ الْقَطِيفِ، وَمَا بَيْنَ هَجَرَ إِلَى الدِّيَارِ الْمُضَرِيَّةِ، وَكَانَتْ وِفَادَتُهُمْ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَسَبَبُهَا أَنَّ مُنْقِذَ بْنَ حِبَّانَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَّجِرُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَامَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرَافِ قَوْمِهِ مُسَمِّيًا لَهُ بِأَسْمَائِهِمْ فَأَسْلَمَ، وَتَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى هَجَرَ وَمَعَهُ كِتَابُهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فَكَتَمَهُ أَيَّامًا لَكِنْ أَنْكَرَتْ زَوْجَتُهُ صَلَاتَهُ وَمُقَدِّمَاتِهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِيهَا الْمُنْذِرِ رَئِيسِهِمْ فَتَجَاذَبَا فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِالْكِتَابِ إِلَى قَوْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَأَجْمَعُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فَتَوَجَّهَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَحِينَ قَرُبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لِجُلَسَائِهِ: ( «أَتَاكُمْ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ خَيْرُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَفِيهِمُ الْأَشَجُّ» ) أَيِ الْمُنْذِرُ، سَمَّاهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِذَلِكَ لِأَثَرٍ بِوَجْهِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَرْبَعُونَ، وَجُمِعَ بِأَنَّ لَهُمْ وِفَادَتَيْنِ، أَوْ بِأَنَّ أَشْرَافَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ.
(لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ حَضَرُوهُ (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنِ الْقَوْمُ؟) بِفَتْحِ الْمِيمِ (أَوْ: مَنِ الْوَفْدُ) ؟ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّؤَالُ إِنَّمَا هُوَ لِلِاسْتِئْنَاسِ (قَالُوا: رَبِيعَةُ) أَيْ قَالَ بَعْضُ الْوَفْدِ: نَحْنُ رَبِيعَةُ، أَوْ وَفْدُ رَبِيعَةَ، أَوْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: هُمْ رَبِيعَةُ، أَوْ وَفْدُ رَبِيعَةَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ أَيْ تُسَمَّى رَبِيعَةَ، أَوْ يُسَمَّوْنَ رَبِيعَةَ (قَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ) أَوْ (بِالْوَفْدِ) أَيْ أَصَابَ الْوَفْدُ رُحْبًا وَسَعَةً، أَوْ أَتَى الْقَوْمُ مَوْضِعًا وَاسِعًا، فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْفَاعِلِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ بِهِ لِمُقَدَّرٍ، أَوْ أَتَى اللَّهُ بِالْقَوْمِ مَرْحَبًا، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمَرْحَبًا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَفَاعِيلِ الْمَنْصُوبَةِ بِمُضْمِرٍ وُجُوبًا لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَيُقَالُ هَذَا لِلتَّأْنِيسِ وَإِزَالَةِ الْحُزْنِ وَالِاسْتِحْيَاءِ عَنْ نَفْسِ مَنْ أَتَاهُمْ مِنْ وَافِدٍ، أَوْ بَاغِي خَيْرٍ، أَوْ قَاصِدِ حَاجَةٍ، وَتَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ: صَادَفْتُمْ، أَوْ أَصَبْتُمْ غَيْرُ ظَاهِرٍ مَعَ وُجُودِ الْقَوْمِ.
(غَيْرَ خَزَايَا) بِفَتْحِ الْخَاءِ جَمْعُ خَزْيَانَ، مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْوَفْدِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي مَرْحَبًا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (بِالْوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا) وَجُوِّزَ جَرُّهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْقَوْمِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ صِفَةٌ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ ” غَيْرَ ” مُتَوَغِّلَةٌ فِي النَّكِرَةِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا تَصِيرُ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ، وَلَوْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ (وَلَا نَدَامَى) : جَمْعُ نَدْمَانَ بِمَعْنَى نَادِمٍ، أَوْ جَمْعُ نَادِمٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ قِيَاسُهُ: (نَادِمِينَ) ازْدِوَاجًا لِلْخَزَايَا، وَالْمَعْنَى مَا كَانُوا بِالْإِتْيَانِ إِلَيْنَا خَاسِرِينَ خَائِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا أَصَابَهُمْ قِتَالٌ وَلَا سَبْيٌ فَيُوجِبُ اسْتِحْيَاءً أَوِ افْتِضَاحًا أَوْ ذُلًّا أَوْ نَدَمًا (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ) أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ (إِلَّا فِي الشَّهْرِ) مِنَ الشُّهْرَةِ، وَالظُّهُورِ (الْحَرَامِ) : وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ أَرْبَعَةٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ مُتَوَالِيَةٌ، وَرَجَبٌ فَرْدٌ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اعْتِذَارًا عَنْ عَدَمِ الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يُحَارِبُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَكْفُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ تَعْظِيمًا لَهَا وَتَسْهِيلًا عَلَى زُوَّارِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ فِي غَيْرِهَا، فَلَا يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَسَالِكِ وَالْمَرَاحِلِ إِلَّا فِيهَا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ يُمْكِنُ مَجِيءُ هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِيهَا دُونَ مَا عَدَاهَا؛ لِأَمْنِهِمْ فِيهَا مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ الْحَاجِزِينَ بَيْنَ مَنَازِلِهِمْ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ هَذَا التَّعْظِيمُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] (وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ ” نَأْتِيكَ “، أَوْ بَيَانٌ لِوَجْهِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَأَصْلُ الْحَيِّ مَنْزِلُ الْقَبِيلَةِ، سُمِّيَتْ بِهِ اتِّسَاعًا لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَحْيَا بِبَعْضٍ، أَوْ يُحَمِّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا (مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ) : تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَمُضَرُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ ابْنُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، فَهُوَ أَخُو رَبِيعَةَ أَبِي عَبْدِ الْقَيْسِ (فَمُرْنَا بِأَمْرٍ) : الْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ، وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَالْبَاءُ صِلَةٌ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَوْرِدُهُ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، أَيِ الْقَوْلُ الطَّالِبُ لِلْفِعْلِ، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ، وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ أَيْ مُرْنَا نَعْمَلْ بِقَوْلِكَ: آمِنُوا، أَوْ قُولُوا آمَنَّا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الرَّاوِي: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ اهـ.
فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَقَالَ الرَّاوِي: قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لَهُمْ: آمِنُوا، أَوْ قُولُوا: آمَنَّا.
(فَصْلٍ) : بِمَعْنَى فَاصِلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ صِفَةٌ لِأَمْرٍ أَيْ أَمْرٌ قَاطِعٌ، أَوْ بِمَعْنَى مُفَصَّلٍ لِتَفْصِيلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْإِيمَانَ بِأَرْكَانِهِ الْخَمْسَةِ، أَوْ مَفْصُولٌ أَيْ مُبِينٌ وَاضِحٌ بِهِ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِهِ، وَحَكَى الْإِضَافَةَ (نُخْبِرُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِأَمْرٍ أَوِ اسْتِئْنَافٍ، وَبِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (بِهِ) : بِسَبَبِهِ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ (مَنْ وَرَاءَنَا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ، أَيْ مَنْ خَلْفَنَا مَنْ قَوْمِنَا، أَوْ مِنْ بَعْدِنَا مِمَّنْ يُدْرِكُنَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِكَسْرِهَا اهـ.
وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ.
(وَنَدْخُلُ) عَطْفًا عَلَى نُخْبِرُ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (بِهِ) أَيْ بِسَبَبِ قَبُولِ أَمْرِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ الْمَفْهُومِ مَنْ ” نُخْبِرُ ” (الْجَنَّةَ) أَيْ مَعَ الْفَائِزِينَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعَ النَّاجِينَ اهـ.
وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ لَكِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبُهُ كَمَا أَنَّ الْأَكْلَ سَبَبُ الشِّبَعِ، وَالْمُشْبِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ؛ إِذْ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ أَيْ دَرَجَاتُهَا فَإِنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ، وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْإِفْضَالِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا عَلَى حَدِّ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] أَيْ بِعَمَلِكُمْ، وَلَا يُنَافِيهِ خَبَرُ: ( «لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» ) ; لِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا فِي الدُّخُولِ، بِدَلِيلِ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ( «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» ) .
وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْجَوَابِ بِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْآيَةِ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ أُورِثْتُمُوهَا مُلَابَسَةً لِأَعْمَالِكُمْ، أَيْ لِثَوَابِهَا، أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ كَـ ” بِعْتُهُ بِدِرْهَمٍ “، أَوِ الْمُرَادُ الْجَنَّةُ الْعَالِيَةُ، أَوْ بِأَنَّ دَرَجَاتِهَا بِالْعَمَلِ وَدُخُولَهَا بِالْفَضْلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الدُّخُولُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى أَيْ فَلَمْ يَقَعِ الدُّخُولُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى خِلَافُ صَرِيحِ الْحَدِيثِ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَرَّرَ مِنِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، إِذِ الْقَصْدُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَرَى عَمَلَهُ مُتَكَفِّلًا بِدُخُولِهَا مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةٍ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ.
اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ انْتِفَاءُ دُخُولِهَا بِالْعَمَلِ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ، وَإِثْبَاتُهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَضْلِ فَمَا بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يَقْبَلُ الْفَصْلَ.
(وَسَأَلُوهُ) أَيِ الْوَفْدُ (عَنِ الْأَشْرِبَةِ) – جَمْعُ شَرَابٍ، وَهُوَ يَشْرَبُ – أَيْ عَنْ حُكْمِ ظُرُوفِهَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ، أَوِ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ، بِحَذْفِ الصِّفَةِ، وَالْمُرَادُ: عَنْ حُكْمِهَا (فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ) أَيْ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا الْأَهَمُّ بِالسُّؤَالِ، وَالْأَتَمُّ فِي تَحْصِيلِ الْكَمَالِ (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أَيْ أَرْبَعِ خِصَالٍ، وَهِيَ أَنْوَاعُ الشُّرْبِ بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ الظُّرُوفِ الْآتِيَةِ.
(أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ) : نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ وَاحِدًا فِي الذَّاتِ مُنْفَرِدًا فِي الصِّفَاتِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْأَفْعَالِ.
وَهَذَا الْأَمْرُ تَوْطِئَةٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ فُرُوعِ التَّكَالِيفِ، وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ شَرْطُ صِحَّتِهَا، وَمَبْدَأُ ثُبُوتِهَا (قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟) ذَكَرَهُ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى تَفْرِيغِ أَذْهَانِهِمْ لِضَبْطِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) تَأَدُّبًا وَطَلَبًا لِلسَّمَاعِ مِنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ حَجْرٍ: هُوَ بِمَعْنَى عَالِمٍ عَلَى حَدِّ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ثُمَّ أَغْرَبَ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ عَقِبَ نَحْوِ فَتَاوِيهِمْ وَأَبْحَاثِهِمْ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَلَى مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: يَقُولُ الْمُجِيبُ فِي الْعَقَائِدِ: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَفِي الْفُرُوعِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
فَإِنَّهُ تَنَاقَضٌ بَيْنَ تَأْوِيلِهِ وَأَخْذِهِ.
(قَالَ) : قِيلَ أَيِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ؟ إِذْ كُلٌّ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْآخَرِ، وَمِنْ ثَمَّ فَسَّرَهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْإِيمَانَ هُنَا.
كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ: (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) : بِرَفْعِ شَهَادَةٍ لَا غَيْرَ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ: هُوَ (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ) : بِجَرِّ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ بِرَفْعِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَجَّ لِأَنَّ وِفَادَةَ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَتْ عَامَ الْفَتْحِ، وَنَزَلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَهَا عَلَى الْأَشْهَرِ (وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ أَيِ الْغَنِيمَةُ (الْخُمُسَ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَسُكُونِهَا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: ” وَأَنْ تُعْطُوا ” عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَرْبَعٍ، فَلَا يَكُونُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ مُطْلَقِ شُعَبِ الْإِيمَانِ اهـ.
فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ زِيَادَةِ الْإِفَادَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْحَدِيثِ إِشْكَالَانِ، أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَاحِدٌ، وَالْأَرْكَانُ تَفْسِيرٌ لِلْإِيمَانِ؛ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ؟ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْأَرْكَانَ أَيِ الْمَذْكُورَةَ خَمْسَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً أَيْ أَوَّلًا.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِيمَانَ أَرْبَعًا نَظَرًا إِلَى أَجْزَائِهِ الْمُفَصَّلَةِ، وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ عَادَةَ الْبُلَغَاءِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُنَصَّبًا لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ جَعَلُوا سِيَاقَهُ لَهُ وَكَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَطْرُوحٌ، فَهَاهُنَا ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُقِرِّينَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: أَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: ( «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَأَعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ» ) اهـ.
وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تَنْدَفِعُ الْإِشْكَالَاتُ وَتَرْجِعُ إِلَيْهَا التَّأْوِيلَاتُ، لَكِنِّي مَا أَقُولُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مَقْصُودًا، بَلْ أَقُولُ: هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورَاتُ بَيَانُ شُعَبِهَا الْمُعَظَّمَةِ، وَأَرْكَانِهَا الْمُفَخَّمَةِ، وَمَحْمَلُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا مِنَ الْأَرْبَعِ، بَلْ هُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَبَيْنَ مُبَيِّنِهَا.
قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قُرِئَ: وَأَقَامَ الصَّلَاةَ إِلَخْ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ لِيَكُونَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْإِيمَانُ فَأَيْنَ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ؟ وَإِنْ قُرِئَتْ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِالْإِيمَانِ يَكُونُ الْمَذْكُورُ خَمْسَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ.
وَأُجِيبَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ حَذَفَهَا الرَّاوِي اخْتِصَارًا أَوْ نِسْيَانًا، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي بِأَنَّهُ عَدَّ الْأَرْبَعَ الَّتِي وَعَدَهُمْ، ثُمَّ زَادَهُمْ خَامِسَةً، وَهِيَ أَدَاءُ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِكُفَّارِ مُضَرَ، وَكَانُوا أَهْلَ جِهَادٍ وَغَنَائِمَ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ اخْتِيَارُ الْجَارِّ، وَالْمَجْرُورَاتُ الْأَرْبَعَةُ بِالْعَطْفِ هِيَ الْمَأْمُورَاتُ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْإِيمَانِ لِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِهِ وَأَصْلِهِ، سَوَاءٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَوْ مُرْتَدِّينَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ إِلَى آخِرِ الشَّهَادَتَيْنِ كَجُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ أَيْضًا بِدَلِيلِ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْكَانَ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِيمَانِ، وَلِلرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ: (وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ) أَيْ خِصَالٍ، وَهِيَ الِانْتِبَاذُ فِي الظُّرُوفِ الْأَرْبَعَةِ وَالشُّرْبُ مِنْهَا (عَنِ الْحَنْتَمِ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَهُوَ – بِفَتْحِ الْحَاءِ – الْجَرَّةِ مُطْلَقًا، أَوْ خَضْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ، أَعْنَاقُهَا فِي جُنُوبِهَا، يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنْ مُضَرَ، أَوْ أَفْوَاهُهَا فِي جُنُوبِهَا يُجْلَبُ فِيهَا الْخَمْرُ مِنَ الطَّائِفِ، أَوْ جِرَارٌ تُعْمَلُ مِنْ طِينٍ وَأُدْمٍ وَشَعَرٍ – أَقْوَالٌ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ – وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَنْتَبِذُونَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
(وَالدُّبَّاءِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ، وَيُمَدُّ وَيُقْصَرُ – وِعَاءُ الْقَرْعِ، وَهُوَ الْيَقْطِينُ الْيَابِسُ (وَالنَّقِيرُ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ – جِذْعٌ يُنْقَرُ وَسَطُهُ وَيُنْبَذُ فِيهِ (وَالْمُزَفَّتِ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ – المَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْقَارُ وَالْقِيرُ، وَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ” الْمُقَيَّرُ ” بَدَلَ الْمُزَفَّتِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ لَيْسَ اسْتِعْمَالُهَا مُطْلَقًا، بَلِ النَّقِيعُ فِيهَا وَالشُّرْبُ مِنْهَا مَا يُسْكِرُ، وَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهَا خُصُوصًا إِمَّا لِاعْتِيَادِهِمُ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْمُسْكِرَاتِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَوْعِيَةٌ تُسْرِعُ بِالِاشْتِدَادِ فِيمَا يُسْتَنْقَعُ؛ لِأَنَّهَا غَلِيظَةٌ لَا يَتَرَشَّحُ مِنْهَا الْمَاءُ وَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الْهَوَاءُ، فَلَعَلَّهَا تُغَيِّرُ النَّقِيعَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ، وَيَتَنَاوَلُهُ صَاحِبُهُ عَلَى غَفْلَةٍ بِخِلَافِ السِّقَاءِ فَإِنَّ التَّغَيُّرَ فِيهِ يَحْدُثُ عَلَى مَهْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: ( «نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» ) .
وَقِيلَ: هَذِهِ الظُّرُوفُ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالْخَمْرِ، فَلَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ حَرَّمَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الظُّرُوفِ، إِمَّا لِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهَا تَشْبِيهًا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ كَانَتْ فِيهَا أَثَرُ الْخَمْرِ، فَلَمَّا مَضَتْ مُدَّةً أَبَاحَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الظُّرُوفِ، فَإِنَّ أَثَرَ الْخَمْرِ زَالَ عَنْهَا، وَأَيْضًا فِي ابْتِدَاءِ تَحْرِيمِ شَيْءٍ يُبَالِغُ وَيُشَدِّدُ لِيَتْرُكَهُ النَّاسُ مَرَّةً، فَإِذَا تَرَكَهُ النَّاسُ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ يَزُولُ التَّشْدِيدُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، هَذَا وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتُفْتِيَ عَنِ الِانْتِبَاذِ فَذَكَرَهُ، فَلَوْ نُسِخَ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النُّسَخُ، فَلَا يَكُونُ إِيرَادُهُ لَهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَلَغَهُ.
(وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (احْفَظُوهُنَّ) أَيِ الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ وَاعْمَلُوا بِهِنَّ، (وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ) أَيْ أَعْلَمُوهُنَّ (مَنْ وَرَاءَكُمْ) أَيِ الَّذِينَ خَلْفَكُمْ مِنَ الْقَوْمِ؛ لِتَكُونُوا عَالِمِينَ مُعَلِّمِينَ وَكَامِلِينَ مُكَمِّلِينَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَجَرِّ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ (وَلَفْظُهُ) أَيْ لَفَظُ الْحَدِيثِ لِلْبُخَارِيِّ، يَعْنِي وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى صَارَ الْحَدِيثُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ.

✩✩✩✩✩✩✩

18 – وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: ( «بَايَعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ.
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ إِلَى اللَّهِ؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» ) فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

Success rituals

18 – (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ، يُكْنَى أَبَا الْوَلِيدِ الْأَنْصَارِيَّ، كَانَ نَقِيبًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، ثُمَّ وَجَّهَهُ عُمَرُ إِلَى الشَّامِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا، فَأَقَامَ بِحِمْصَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى فِلَسْطِينَ وَمَاتَ بِهَا فِي الرَّمْلَةِ، وَقِيلَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَوْلَهُ) : نَصَبَهُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: (عِصَابَةٌ) : بِالْكَسْرِ اسْمُ جَمْعٍ كَالْعُصْبَةِ، لِمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، مِنَ الْعَصْبِ وَهُوَ الشَّدُّ، كَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَشُدُّ بَعْضًا، أَوْ مِنَ الْعَصَبِ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْأَعْضَاءَ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مِنْ أَصْحَابِهِ) : صِفَةٌ لِعِصَابَةٍ (بَايِعُونِي) أَيْ عَاقِدُونِي وَعَاهَدُونِي تَشْبِيهًا لِنَيْلِ الثَّوَابِ فِي مُقَابَلَةِ الطَّاعَةِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَوَجْهُ الْمُفَاعَلَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَعْطَاهُ خَالِصَةَ نَفْسِهِ وَطَاعَتَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ (عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا) : مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، قِيلَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّيَاءُ (وَلَا تَسْرِقُوا) وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ مُحْرَزًا بِخُفْيَةٍ (وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ) : بِدَفْنِهِمْ أَحْيَاءً، فَصِبْيَانَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ وَافْتِقَارٍ، وَبَنَاتَكُمْ خَوْفَ لُحُوقِ عَارٍ وَعَيْبٍ (وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَهُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ سَامِعَهُ، الْمُرَادُ بِهِ الْقَذْفُ (تَفْتَرُونَهُ) أَيْ تَخْتَلِقُونَهُ وَتَخْتَرِعُونَهُ صِفَةُ بُهْتَانٍ (بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) أَيْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، وَعُبِّرَ بِهِمَا عَنِ الذَّاتِ وَالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَفْعَالِ تُزَاوَلُ وَتُعَالَجُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا تَبْهَتُوا النَّاسَ بِالْعُيُوبِ كِفَاحًا وَشِفَاهًا كَيْ لَا يُشَاجِرَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَمَا يُقَالُ: فَعَلْتُ هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ أَيْ بِحَضْرَتِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشُدُّ الْبَهْتِ، أَوْ لَا تَنْسِبُوهُ مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ فَاسِدٍ وَغَيْرِ مُبْطِنٍ مِنْ ضَمَائِرِكُمْ وَقُلُوبِكُمُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَلَا تُلْحِقُوا بِالرِّجَالِ الْأَوْلَادَ مِنْ غَيْرِ أَصْلَابِهِمْ، فَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْمَوْلُودَ وَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: هُوَ وَلَدِي مِنْكَ، فَعُبِّرَ بِالْبُهْتَانِ الْمُفْتَرَى بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي تُلْحِقُهُ بِزَوْجِهَا كَذِبًا؛ لِأَنَّ بَطْنَهَا الَّذِي يَحْمِلُهُ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَفَرْجَهَا الَّذِي تَلِدُ مِنْهُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا.
(وَلَا تَعْصُوا) بِضَمِّ الصَّادِ – تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (فِي مَعْرُوفٍ) : مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ حُسْنُهُ، أَوْ قُبْحُهُ (فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لَفَظُ ” وَفَى ” دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ إِنَّمَا يُنَالُ بِالْوَفَاءِ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْعُهُودِ وَالْحُقُوقِ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فَإِنَّهُ يُنَالُ بِتَرْكِ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ اهـ.

✩✩✩✩✩✩✩

وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَجْرِ كَمَالَهُ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا يَتَوَقَّفُ أَجْرُ امْتِثَالِ طَاعَةٍ أَوِ اجْتِنَابِ مَعْصِيَةٍ عَلَى الْآخَرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ صَحِيحَةٌ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ.
(وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ) أَيِ الْمَذْكُورِ (شَيْئًا فَعُوقِبَ) أَيْ (بِهِ) كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، يَعْنِي أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (فِي الدُّنْيَا فَهُوَ) أَيِ الْحَدُّ وَالْعِقَابُ (كَفَّارَةٌ لَهُ) وَزَادَ فِي نُسْخَةٍ، وَطَهُورٌ – بِفَتْحِ الطَّاءِ – أَيْ يُكَفِّرُ إِثْمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعَاقَبْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا الْخَاصُّ بِغَيْرِ الشِّرْكِ، وَأَخَذَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ، وَخَبَرُ: ” «لَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ أَمْ لَا» ” أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ نَفْيُ الْعِلْمِ، وَفِي هَذَا إِثْبَاتُهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَلْ عَلَى عَدَمِ التَّوْبَةِ مِنْهُ إِنْ مَاتَ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا ذَنْبٌ آخَرُ غَيْرُ مَا وَقَعَ الْعِقَابُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وَيُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
( «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ» ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُصَابَ أَيْ (عَلَيْهِ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ: وَعَلَى غَيْرِهَا، أَيْ سَتَرَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمُصِيبَ أَيْ ذَنْبَهُ بِأَنْ لَمْ يُقِمِ الْحَدَّ عَلَيْهِ (فَهُوَ) أَيِ الْمَسْتُورُ (إِلَى اللَّهِ) أَيْ أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ مِنَ الْعَفْوِ وَالْعِقَابِ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِقَابُ عَاصٍ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ثَوَابُ مُطِيعٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَقِّ (إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ) قُدِّمَ لِسَبْقِ رَحْمَتِهِ (وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ) رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ (فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ) وَتُسَمَّى بَيْعَةُ النِّسَاءَ كَمَا فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ؛ وَلِذَا قِيلَ: عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

Multi-Level Affiliate Program Affiliate Program

✩✩✩✩✩✩✩

19 – وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: ( «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، فَإِنِي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) ، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ) قُلْنَ: مَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟) قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: (فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) قَالَ: أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصِلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟) قُلْنَ: بَلَى.
قَالَ: (فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» ) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

19 – (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) مَنْسُوبٌ إِلَى خُدْرَةَ، بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، حَيٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ.
هُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ، اشْتَهَرَ بِكُنْيَتِهِ، كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَضْحًى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالتَّنْوِينِ، وَاحِدُهُ أُضْحَاةٌ، لُغَةٌ فِي الْأُضْحِيَةِ، أَيْ فِي عِيدِ أَضْحًى – عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، بَلْ غَلَبَ عَلَى عِيدِ النَّحْرِ، فَحِينَئِذٍ مُغْنٍ عَنِ التَّقْدِيرِ كَالْفِطْرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُفْعَلُ وَقْتَ الضُّحَى وَهُوَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ (أَوْ فِطْرٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (إِلَى الْمُصَلَّى) أَيِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ إِلَى الْيَوْمِ خَارِجَ السُّورِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ (فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ) : مَرَّ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَالْبَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَهُنَّ لِلْوَعْظِ أَوْ: لَمَّا مَرَّ بِهِنَّ وَعَظَهُنَّ (فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ) أَيْ جَمَاعَتَهُنَّ، وَالْخِطَابُ عَامٌّ غُلِّبَتِ الْحَاضِرَاتُ عَلَى الْغُيَّبِ (تَصَدَّقْنَ) أَمْرٌ لَهُنَّ أَيْ أَعْطِينَ الصَّدَقَةَ (فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ) عَلَى طَرِيقِ الْكَشْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ (أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ أُرِيَ إِذَا أُعْلِمَ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ مَفَاعِيلَ؛ أَحَدُهَا: التَّاءُ الْقَائِمَةُ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي: كُنَّ، وَالثَّالِثُ: أَكْثَرُ، أَيْ أُعْلِمْتُ بِأَنَّكُنَّ أَكْثَرُ دُخُولًا فِي النَّارِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالصَّدَقَةُ تَقِي مِنْهَا.
كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ كَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ مَحَبَّتُهُنَّ لِلدُّنْيَا، وَبِالتَّصَدُّقِ يَزُولُ، أَوْ يُنْقَصُ رَذِيلَةُ الْبُخْلِ النَّاشِئِ عَنْ مَحَبَّتِهَا الْمَذْمُومَةِ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَرَدَ: ( «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» ) .
(فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَصْلُهُ بِمَا حُذِفَتْ أَلْفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا تَخْفِيفًا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ بَعْدَهَا، وَالْوَاوُ إِمَّا لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقُلْنَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ نَكُونُ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ أَوْ زَائِدَةٌ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ لَا سُؤَالٌ مُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ.
(قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ) أَصْلُهُ إِبْعَادُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَخَطِهِ، وَمِنَ الْإِنْسَانِ الدُّعَاءُ بِالسَّخِطِ وَالْإِبْعَادِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ مُصَادَرَةٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِمُعَيَّنٍ، وَلَوْ كَافِرًا لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ يَقِينًا؛ إِذْ كَيْفَ يُبْعَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ خَاصَّةُ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَمُوتَ مُسْلِمًا؟ بِخِلَافِ مَنْ عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ مَوْتُهُ كَافِرًا كَأَبِي جَهْلٍ، أَوْ أَنَّهُ سَيَمُوتُ كَذَلِكَ كَإِبْلِيسَ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ فِي لَعْنِهِ، وَبِخِلَافِ اللَّعْنِ لَا لِمُعَيَّنٍ بَلْ يُوصَفُ كَلَعْنِ اللَّهِ الْوَاصِلَةَ وَآكِلَ الرِّبَا وَالْكَاذِبَ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْجِنْسِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ بِالْإِكْثَارِ أَنَّ اللَّعْنَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِنَّ لِاعْتِيَادِهِنَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِمَعْنَاهُ السَّابِقِ، فَخَفَّفَ الشَّارِعُ عَنْهُنَّ وَلَمْ يَتَوَعَّدْهُنَّ بِذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ إِكْثَارِهِ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ النَّاسَ ابْتُلُوا بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرُونَ، بَلْ حُكِيَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ – لَلَزِمَ تَفْسِيقُ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَوْ غَالِبِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ أَيُّ حَرَجٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّتْمِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ يَعْنِي: عَادَتُكُنَّ إِكْثَارُ اللَّعْنِ وَالشَّتْمِ وَالْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ (وَتَكْفُرْنَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ (الْعَشِيرَ) أَيِ الْمُعَاشِرَ الْمُلَازِمَ، وَهُوَ الزَّوْجُ هَاهُنَا، وَكُفْرَانُهُ جَحْدُ نِعْمَتِهِ وَإِنْكَارُهَا، أَوْ سَتْرُهَا بِتَرْكِ شُكْرِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: ( «وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» ) يَعْنِي شُكْرًا كَامِلًا فَإِنَّهُ شَكَرَ الْمُسَبَّبِ وَلَمْ يَشْكُرِ السَّبَبَ، وَاسْتِعْمَالُ الْكُفْرَانِ فِي النِّعْمَةِ وَالْكَفْرِ فِي الدِّينِ أَكْثَرُ.
(مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ) ” مِنْ ” مَزِيدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، صِفَةٌ لِمَفْعُولِهِ الْمَحْذُوفِ أَيْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ نَاقِصَاتٍ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِإِحْدَاكُنَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَوْلُهُ: (أَذْهَبَ) : صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ أَحَدًا، وَعَلَى الْأَوَّلِ صِفَةٌ أُخْرَى لَهُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ لَرَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمْتُ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَفْرُوضٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الْإِذْهَابِ؛ لِمَكَانِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: (لِلُبِّ الرَّجُلِ) فَمَعْنَاهُ: أَكْثَرُ إِذْهَابًا لِلُّبِّ، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ كَـ ” هُوَ أَعْطَاهُمْ لِلدَّرَاهِمِ “، ثُمَّ الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ يُدْرَكُ بِهَا الْمَعْنَى، وَيَمْنَعُ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَهُوَ نُورُ اللَّهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، وَاللُّبُّ الْعَقْلُ الْخَالِصُ مِنْ شَوْبِ الْهَوَى (الْحَازِمِ) صِفَةُ الرَّجُلِ أَيِ الضَّابِطُ أَمْرَهُ، وَفِي ذِكْرِهِ مَعَ ذِكْرِ اللُّبِّ إِشْعَارٌ بِأَنَّ فِتْنَتَهُنَّ عَظِيمَةٌ تَذْهَبُ بِعُقُولِ الْحَازِمِينَ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ؟ (مِنْ إِحْدَاكُنَّ) مُتَعَلِّقٌ بِأَذْهَبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: مِنْكُنَّ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الذَّمِيمَةِ فَكَوْنُهُنَّ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ جَرِيرٍ فِي وَصْفِ عُيُوبِهِنَّ: يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حِرَاكَ بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أَرْكَانًا (قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) مَعَ أَنَّ دِينَنَا وَدِينَ الرَّجُلِ وَاحِدٌ، وَكُلُّنَا مَعْدُودُونَ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ، وَلَعَلَّهُنَّ خَالَفْنَ التَّرْتِيبَ السَّابِقَ الْمُوَافِقَ لِلَّاحِقِ؛ إِشَارَةً إِلَى الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ لِيَتَدَارَكْنَ إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ حَيْثُ مَا رَاعَيْنَ كَلَامَ النُّبُوَّةِ، وَمَا فَهِمْنَ وَجْهَ التَّرْتِيبِ مِنْ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَقْلِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ، وَنُقْصَانُ الدِّينِ أَمْرٌ حَادِثٌ، أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ إِنَّمَا يَنْشَأُ نُقْصَانُ الدِّينِ مِنْ نُقْصَانِ الْعَقْلِ، ثُمَّ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ حَذَاقَةِ أُولَئِكَ الْحَاضِرَاتِ، وَمِنْ ثَمَّةَ مَدَحَهُنَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِقَوْلِهِ: ( «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» ) ، وَفِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ حَثٌّ لِلْمُتَعَلِّمِ عَلَى مُرَاجَعَةِ الْعَالَمِ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَعْنَاهُ قَالَ: ( «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (قُلْنَ: بَلَى.
قَالَ: (فَذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ وَالْكَافُ لِخِطَابِ الْعَامِّ، وَيُحْتَمَلُ الْكَسْرُ؛ وَلِذَا لَمْ يَقُلْ: ” ذَلِكُنَّ ” مَعَ كَوْنِ الْخِطَابِ لِلنِّسَاءِ.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابٌ لِلْوَاحِدَةِ الَّتِي تَوَلَّتِ الْخِطَابَ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَامِّ.
(مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا) : وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] (قَالَ) : لَعَلَّ إِعَادَةَ ” قَالَ ” لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ مُسْتَقِلٌّ رَاجِعٌ إِلَى نَظِيرِهِ السَّابِقِ، وَلَيْسَ مِنْ تَتِمَّةِ هَذَا الْقَوْلِ الْقَرِيبِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَأَمَّا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ وَمِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(أَلَيْسَ) : اسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَخَبَرُهَا قَوْلُهُ: ( «إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» ) قُلْنَ: بَلَى.
قَالَ: (فَذَلِكَ) أَيْ كَوْنُهَا غَيْرَ مُصَلِّيَةٍ وَلَا صَائِمَةٍ (مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا) يَعْنِي فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهَا حُرِمَتْ مِنْ ثَوَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَقْضِي، وَمِنْ كَمَالِ ثَوَابِ الصَّوْمِ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتِ الْفَضِيلَةِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الطَّاعَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ إِيرَادِهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

✩✩✩✩✩✩✩

20 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبْنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ، وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ» ) .

20 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : مَرَّ ذِكْرُهُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) هَذَا حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِإِلْهَامٍ أَوْ مَنَامٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ بِالْمَعْنَى، فَيَعَبِّرُهُ بِلَفْظِهِ وَيَنْسِبُهُ إِلَى رَبِّهِ، وَالثَّانِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِنْزَالِ جِبْرِيلَ بِاللَّفْظِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ أَيْضًا مُتَوَاتِرٌ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ فِي الْفُرُوعِ.
(كَذَّبْنِي) بِسُكُونِ الْبَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، أَيْ نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ (ابْنُ آدَمَ) أَيْ هَذَا الْجِنْسُ، وَالتَّكْذِيبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ خَبَرِ مُتَكَلِّمٍ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ مَا صَحَّ وَمَا اسْتَقَامَ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي التَّكْذِيبُ لَهُ (وَشَتَمَنِي) : الشَّتْمُ تَوْصِيفُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ إِزْرَاءٌ وَنَقْصٌ فِيهِ، وَإِثْبَاتُ الْوَلَدِ لَهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ الشَّيْخَ: قَوْلٌ بِمُمَاثِلَةِ الْوَلَدِ فِي تَمَامِ حَقِيقَتِهِ وَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِمْكَانِ الْمُتَدَاعِي إِلَى الْحُدُوثِ (وَلَمْ يَكُنْ) لَائِقًا، وَحَقًّا (لَهُ ذَلِكَ) الشَّتْمُ (فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ) : تَفْصِيلٌ لِمَا أَجْمَلَهُ، (فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي) الْإِعَادَةُ هِيَ الْإِيجَادُ بَعْدَ الْعَدَمِ الْمَسْبُوقِ بِالْوُجُودِ، فَالْمَعْنَى لَنْ يُحْيِيَنِي بَعْدَ مَوْتِي (” كَمَا بَدَأَنِي “) أَيْ أَوَجَدَنِي عَنْ عَدَمٍ وَخَلَقَنِي ابْتِدَاءً، أَيْ كَالْحَالَةِ الَّتِي كُنْتُ عَلَيْهَا حِينَ بَدَأَنِي، أَوْ إِعَادَةً مِثْلَ بَدْئِهِ إِيَّايَ، أَوْ لَنْ يُعِيدَنِي مُمَاثِلًا لِمَا بَدَأَنِي عَلَيْهِ، أَوْ لِبَدْئِهِ لِي مِنْ تُرَابٍ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لَا يُرِيدُ الْإِعَادَةَ مِنْ أَصْلِهَا، أَوْ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَتَكْذِيبٌ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ حَمْقَى {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ؛ وَلِذَا رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ لَيْسَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ لِلْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ أَيْ: لَيْسَ أَوَّلُ خَلْقِ الْخَلْقِ، وَالْخَلْقُ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَوِ اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَيْ أَوَّلُ خَلْقِ الشَّيْءِ (بِأَهْوَنَ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، مِنْ هَانَ الْأَمْرُ يَهُونُ، إِذَا سَهُلَ أَيْ لَيْسَ أَسْهَلَ (عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ) أَيِ الْمَخْلُوقِ أَوِ الشَّيْءِ، بَلْ هُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي قُدْرَتِي، بَلِ الْإِعَادَةُ أَسْهَلُ عَادَةً؛ لِوُجُودِ أَصْلِ الْبِنْيَةِ وَأَثَرِهَا، أَوْ أَهْوَنُ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْكُمْ، أَوْ أَسْهَلُ عَلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَإِنَّ الْعَوْدَ يَكُونُ آنِيًّا بِخِلَافِ الْإِيجَادِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَدْرِيجِيًّا، وَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنَ الْآيَةِ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ، وَقِيلَ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مِثَالٍ يُرْشِدُ النَّبِيهَ إِلَى فَهْمِ الْحَقِّ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ مَا يُشَاهِدُهُ أَنَّ مَنِ اخْتَرَعَ صَنْعَةً لَمْ يَرَ مِثْلَهَا وَلَمْ يَجِدْ لَهَا أَصْلًا وَلَا مَدَدًا، صَعُبَتْ عَلَيْهِ وَتَعِبَ فِيهَا غَايَةَ التَّعَبِ، وَافْتَقَرَ إِلَى مُكَابَدَةِ أَعْمَالٍ، وَمُعَاوَنَةِ أَعْوَانٍ، وَمُرُورِ أَزْمَانٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَثِيرًا لَا يَتِمُّ لَهُ مَقْصُودُهُ وَلَا يَظْفَرُ مِنْهُ بِطَائِلٍ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ وَاسْتُقْرِئَ لِأَكْثَرِ طَالِبِي صَنْعَةِ الْكِيمْيَاءِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمَ بَعْدَ فَنَاءِ عُمْرِهِ وَمَالِهِ فِي مَعْرِفَتِهَا أَنَّهَا صَحَّتْ مَعَهُ أَزْعَجَهُ الْفَرَحُ بِهَا إِلَى أَنْ وَقَعَ مِنْ عُلُوٍّ كَانَ فِيهِ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ إِصْلَاحَ مُنْكَسِرٍ وَإِعَادَةَ مُنْهَدِمٍ وَعِنْدَهُ عِدَدُ ذَلِكَ وَأُصُولُهُ فَيَهُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَيَتِمُّ لَهُ مَقْصُودُهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، فَمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ الْإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الْبَدَاءَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِنْكَارَهُمُ الْإِعَادَةَ بَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا بِالْبِدَايَةِ تَكْذِيبٌ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَعَامِلُهَا قَوْلُهُ (فِي) فَقَوْلُهُ، وَصَاحِبُهَا الضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) أَيِ اخْتَارَهُ سُبْحَانَهُ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [الفاتحة: 30 – 32011] وَقَالَتِ الْعَرَبُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ.
(وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ) الَّذِي غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ كَمَا مَرَّ، وَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ نَقْصٌ؛ لِاسْتِدْعَائِهِ مُحَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: مُمَاثَلَتُهُ لِلْوَلَدِ وَتَمَامُ حَقِيقَتِهِ فَيَلْزَمُ إِمْكَانُهُ وَحُدُوثُهُ، وَثَانِيهِمَا: اسْتِخْلَافُهُ لِخَلَفٍ يَقُومُ بِأَمْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ إِذِ الْغَرَضُ مِنَ التَّوَالُدِ بَقَاءُ النَّوْعِ فَيَلْزَمُ زَوَالُهُ وَفَنَاؤُهُ سُبْحَانَهُ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90] الْآيَةَ.
وَالْأَحَدُ: الْمُنْفَرِدُ الْمُطْلَقُ ذَاتًا وَصِفَاتًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَحَدِ وَالْوَاحِدِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ لِنَفْيِ مُفْتَتَحِ الْعَدَدِ، وَالْأَحَدُ لِنَفْيِ كُلِّ عَدَدٍ، فَالْوَاحِدُ يُنْبِئُ عَنْ تَفَرُّدِ الذَّاتِ عَنِ الْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ، وَالْأَحَدُ يُنْبِئُ عَنْ تَفَرُّدِهَا عَنْ كُلِّ نَقْصِ وَاتِّصَافِهَا بِكُلِّ كَمَالٍ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ، وَالصَّمَدُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ (الَّذِي لَمْ أَلِدْ) : مِنْ قَبِيلِ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ أَيْ لَمْ أَكُنْ وَالِدًا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْقِدَمَ لَا يَكُونُ مَحَلَّ الْحَادِثِ (وَلَمْ أُولَدْ) أَيْ: وَلَمْ أَكُنْ وَلَدًا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ قِدَمٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ كَمَا أَنَّهُ آخِرٌ بِلَا انْتِهَاءٍ (وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا) : بِضَمِّ الْكَافِ وَالْفَاءِ، وَسُكُونِهَا مَعَ الْهَمْزَةِ، وَبِضَمِّهِمَا مَعَ الْوَاوِ – ثَلَاثُ لُغَاتٍ مُتَوَاتِرَاتٍ، يَعْنِي مَثَلًا، وَهُوَ خَبَرُ كَانَ، وَقَوْلُهُ: (أَحَدٌ) : اسْمُهَا، وَنَفْيُ الْكُفْءِ يَعُمُّ الْوَالِدِيَّةَ وَالْوَلَدِيَّةَ وَالزَّوْجِيَّةَ وَغَيْرَهَا.

pregnancy nutrition

✩✩✩✩✩✩✩

21 – وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، وَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا) .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

21 – (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، (وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ) : وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (وَسُبْحَانِي) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْفَاءِ أَيْ: نَزَّهْتُ ذَاتِي (أَنْ أَتَّخِذَ) أَيْ مِنْ أَنْ أَتَّخِذَ (صَاحِبَةً) أَيْ زَوْجَةً؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ وَنَفْيِ الْجِنْسِيَّةِ (أَوْ وَلَدًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ (أَوْ) لِلنَّوْعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي جَامِعِ الْحُمَيْدِيِّ ” وَلَا وَلَدًا “.
قَالَ الطِّيبِيُّ: زِيدَ ” لَا ” لِمَا فِي سُبْحَانِي مِنْ مَعْنَى التَّنْزِيهِ أَيِ الْمُرَادِفِ لِلنَّفْيِ الْمُقْتَضِي لِلْعَطْفِ فِي خَبَرِهِ بِلَا.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ سَعَةِ حِلْمِهِ تَعَالَى مَا يَبْهَرُ الْعَقْلَ، إِذْ لَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِأَدَقِّ خَلْقِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِحَمْلِهِ غَضَبُهُ فِيهِ عَلَى اسْتِئْصَالِهِ مِنْ أَصْلِهِ مَعَ ضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْ تَعَالَى شَأْنُهُ بِمَنْ قَالَ ذَلِكَ شَيْئًا، بَلْ أَرْشَدَهُ لِلْحَقِّ، وَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ دَلِيلٍ وَأَوْضَحِهِ.
(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( «شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي، وَكَذَّبَنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، أَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ» ) .
وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَفْظُهُ: قَالَ تَعَالَى: ( «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، وَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» ) .
كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَتَأَمَّلْ يَظْهُرْ لَكَ حَقِيقَةُ الرِّوَايَتَيْنِ.

Multi-Level Affiliate Program Affiliate Program

✩✩✩✩✩✩✩

22 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

22 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَعَنْهُ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مَرْجِعُهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ الْمُعَنْوَنُ فِي الْعُنْوَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ، أَيْ يَقُولُ فِي حَقِّي (ابْنُ آدَمَ) مَا أَكْرَهُ، وَيَنْسِبُ إِلَيَّ مَا لَا يَلِيقُ بِي، أَوْ مَا يَتَأَذَّى بِهِ مَنْ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ التَّأَذِّي؛ وَلِذَا قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ؛ لِأَنَّ تَأَذِّيَ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَإِمَّا أَنْ يُئَوَّلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيذَاءُ عَلَى إِيصَالِ الْمَكْرُوهِ لِلْغَيْرِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ فَإِيذَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ مَا يَكْرَهُهُ، وَكَذَا إِيذَاءُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] (يَسُبُّ الدَّهْرَ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، وَرُوِيَ بِحَرْفِ الْجَرِّ وَفَتْحِ السِّينِ وَجَرِّ الدَّهْرِ، يَعْنِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الدَّهْرَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَضُرُّ وَيَنْفَعُ.
(وَأَنَا الدَّهْرُ) يُرْوَى بِرَفْعِ الرَّاءِ، قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضَافِ أَيْ أَنَا خَالِقُ الدَّهْرِ، أَوْ مُصَرِّفُ الدَّهْرِ، أَوْ مُقَلِّبُهُ، أَوْ مُدَبِّرُ الْأُمُورِ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَيْهِ، فَمَنْ سَبَّهُ بِكَوْنِهِ فَاعِلَهَا عَادَ سَبُّهُ إِلَيَّ؛ لِأَنِّي أَنَا الْفَاعِلُ لَهَا، وَإِنَّمَا الدَّهْرُ زَمَانٌ جُعِلَ ظَرْفًا لِمَوَاقِعِ الْأُمُورِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ الدَّهْرِ مُبَالَغَةً فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَسُبُّهُ، وَهُمْ صِنْفَانِ: دَهْرِيَّةٌ لَا يَعْرِفُونَ لِلدَّهْرِ خَالِقًا وَيَقُولُونَ: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] أَوْ مُعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُمْ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ نِسْبَةِ الْمَكَارِهِ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: تَبًّا لَهُ، وَبُؤْسًا، وَخَيْبَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ جَهَالَةً وَغَفْلَةً، وَيُرْوَى بِنَصْبِ الدَّهْرِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ أَنَا الْفَاعِلُ أَوِ الْمُتَصَرِّفُ فِي الدَّهْرِ، وَقِيلَ: الدَّهْرُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى زَمَانِ مُدَّةِ الْعَالَمِ مِنْ مَبْدَأِ التَّكْوِينِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ، أَوِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى تَعَاقُبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَا الدَّاهِرُ الْمُتَصَرِّفُ الْمُدَبِّرُ الْمُفِيضُ لِمَا يَحْدُثُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَا فَاعِلُ مَا يُضَافُ إِلَى الدَّهْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَسَرَّةِ وَالْمَسَاءَةِ، فَإِذَا سَبَبْتُمُ الَّذِي تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ فَقَدْ سَبَبْتُمُونِي (بَيَدِيَ الْأَمْرُ) : بِالْإِفْرَادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَتُسَكَّنُ، وَيَجُوزُ التَّثْنِيَةُ وَفَتْحُ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، أَيِ الْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا حُلْوُهَا وَمُرُّهَا تَحْتَ تَصَرُّفِي (أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) كَمَا أَشَاءُ بِأَنَّ أَنْقُصَ فِيهِمَا أَوْ أَزْيَدَ، وَأُقَلِّبُ قُلُوبَ أَهْلِهِمَا كَمَا أُرِيدُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ أَيْضًا بِلَفْظِ: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ؛ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا» ) .

Develop Your Financial IQ specific

✩✩✩✩✩✩✩

23 – وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ، يَدْعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ» ) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

23 – (وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ) أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَشْتَهِيهِ أَوْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَهُوَ فِي صِفَةِ الْبَارِي تَأْخِيرُ الْعَذَابِ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ (عَلَى أَذًى) : قِيلَ: إِنَّهُ اسْمُ مَصْدَرِ آذَى يُؤْذِي بِمَعْنَى الْمُؤْذِي صِفَةُ مَحْذُوفٍ، أَيْ كَلَامٌ مُؤْذٍ قَبِيحٌ صَادِرٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَوْلُهُ: (يَسْمَعُهُ) صِفَةُ ” أَذًى ” وَهُوَ تَتْمِيمٌ؛ لِأَنَّ الْمُؤْذَى إِذَا كَانَ بِمَسْمَعٍ مِنَ الْمُؤْذِي كَانَ تَأْثِيرُ الْأَذَى أَشَدَّ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَإِلَّا فَالْمَسْمُوعُ وَغَيْرُهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ تَعَالَى (مِنَ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَصْبَرُ لَا بِـ ” يَسْمَعُهُ ” (يَدْعُونَ) : بِسُكُونِ الدَّالِ، وَقِيلَ بِتَشْدِيدِهَا (لَهُ الْوَلَدَ) : وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْأَذَى (ثُمَّ يُعَافِيهِمْ) بِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ (وَيَرْزُقُهُمْ) : بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمْ.
انْظُرْ فَضْلَهُ وَإِنْعَامَهُ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ مَنْ يُؤْذِيهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَحْتَمِلُ الْأَذَى عَمَّنْ يَعْصِيهِ، وَيَمْتَثِلُ ارْتِكَابَ طَاعَاتِهِ وَاجْتِنَابَ مَنَاهِيهِ.
وَفِيهِ إِرْشَادٌ لَنَا إِلَى تَحَمُّلِ الْأَذَى وَعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ، وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

✩✩✩✩✩✩✩

24 – «وَعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى حِمَارٍ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرُهُمْ فَيَتَّكِلُوا) » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

24 – (وَعَنْ مُعَاذٍ) أَيِ ابْنِ جَبَلٍ، يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا الْعَقَبَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا، رَوَى عَنْهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، مَاتَ وَلَهُ ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
(قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الَّذِي يَرْكَبُ خَلْفَ الرَّاكِبِ مِنَ الرِّدْفِ وَهُوَ الْعَجُزُ، أَيْ كُنْتُ رَدِيفَهُ (عَلَى حِمَارٍ) إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ التَّذَكُّرِ بِالْقِصَّةِ، وَإِشْعَارٌ بِتَوَاضُعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) : أَرَادَ شِدَّةَ الْقُرْبِ فَيَكُونُ الضَّبْطُ أَكْثَرَ (إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ) : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَهُوَ الْعُودُ الَّذِي يَكُونُ خَلْفَ الرَّاكِبِ – بِضَمِّ الْمِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ – وَقَدْ تُبْدَلُ – ثُمَّ خَاءٌ مَكْسُورَةٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَقَدْ تُفْتَحُ.
(فَقَالَ: يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي) أَيْ أَتَعْرِفُ (مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدِّرَايَةُ مَعْرِفَةٌ تَحْصُلُ بِضَرْبٍ مِنَ الْخِدَاعِ؛ وَلِذَا لَا يُوصَفُ الْبَارِي بِهَا أَيْ وَلَا بِالْمَعْرِفَةِ؛ لِاسْتِدْعَائِهَا سَبْقَ جَهْلٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ الْمَعْرِفَةِ بِالْجُزْئِيَّاتِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ ( «وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟» ) حَقُّ اللَّهِ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ وَاللَّازِمِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ بِمَعْنَى الْجَدِيرِ وَاللَّائِقِ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى مَنْ يَتَّخِذُ رَبًّا سِوَاهُ جَدِيرٌ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَا يَجِبَ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ – خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقِيلَ: حَقُّ الْعِبَادِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ، وَمِنْ صِفَةِ وَعْدِهِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْإِنْجَازِ، فَهُوَ حَقٌّ بِوَعْدِهِ الْحَقَّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى جِهَةِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُقَابَلَةِ لِحَقِّهِ عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ حَقُّكَ وَاجِبٌ عَلَيَّ، أَيْ قِيَامِي بِهِ مُتَأَكَّدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «حَقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ» ) (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَإِنَّ) أَيْ إِذَا فَوَّضْتَ فَاعْلَمْ أَنَّ ( «حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ» ) أَيْ يُوَحِّدُوهُ، أَوْ يَقُومُوا بِعِبَادَتِهِ وَعُبُودِيَّتُهُ بِمُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ (وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) : الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ أَوْ تَخْصِيصٌ (وَحَقَّ الْعِبَادِ) : بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ (عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) : مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْإِشْرَاكِ، أَيْ عَذَابًا مُخَلَّدًا، فَلَا يُنَافِي دُخُولَ جَمَاعَةٍ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بَلِ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَمِنْ ثَمَّةَ أَوْجَبُوا الْإِيمَانَ بِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ هَذَا مَعَ قَوْلِ الْبَيْضَاوِيِّ: وَلَيْسَ بِحَتْمٍ عِنْدَنَا أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ، بَلِ الْعَفْوُ عَنِ الْجَمِيعِ بِمُوجِبِ وَعْدِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا – مَرْجُوٌّ؟ قُلْتُ: الْبَيْضَاوِيُّ لَمْ يَنْفِ الدُّخُولَ، وَإِنَّمَا نَفَى تَحَتُّمَهُ، وَجَوَّزَ الْعَفْوَ عَنِ الْجَمِيعِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ الْوَعْدِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ إِخْبَارِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ جَمْعٍ مِنَ الْعُصَاةِ النَّارَ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، عَلَى أَنَّهُ قَالَ: اللَّازِمُ عَلَى الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ عُمُومُ الْعَفْوِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الدُّخُولِ؛ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْبَعْضِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعِقَابِ اهـ.
وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَى دُخُولِ جَمْعٍ النَّارَ وَتَعْذِيبِهِمْ بِهَا، وَقَدِ اسْوَدَّتْ أَبْدَانُهُمْ حَتَّى صَارَتْ كَالْفَحْمِ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِذَلِكَ ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أَبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ» ) أَيْ عُمُومَهُمْ، وَالْفَاءُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَفَلَا أُبَشِّرُهُمْ بِمَا ذَكَرْتَ مِنْ حَقِّ الْعِبَادِ؟ وَالْبِشَارَةُ: إِيصَالُ خَبَرٍ إِلَى أَحَدٍ يَظْهَرُ أَثَرُ السُّرُورِ مِنْهُ عَلَى بَشَرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فَتَهَكُّمٌ أَوْ تَجْرِيدٌ.
(قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ) : قِيلَ: بَعْضُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيُّ عَلَى أَنَّ لِلْعَالَمِ أَنْ يَخُصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهَةَ أَلَّا يَفْهَمُوا، وَقَدْ يَتَّخِذُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْبَطَلَةُ وَالْمُبَاحِيَّةِ ذَرِيعَةً إِلَى تَرْكِ التَّكَالِيفِ وَرَفْعِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى خَرَابِ الدُّنْيَا بَعْدَ خَرَابِ الْعُقْبَى (فَيَتَّكِلُوا) : مَنْصُوبٌ فِي جَوَابِ النَّهْيِ بِتَقْدِيرِ ” أَنْ ” بَعْدَ الْفَاءِ، أَيْ يَعْتَمِدُوا وَيَتْرُكُوا الِاجْتِهَادَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَالنَّهْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعًا، أَيْ لَا يَكُنْ مِنْكَ تَبْشِيرٌ فَاتِّكَالٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ مُعَاذٌ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَالْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَعْتَادُوا تَكَالِيفَهُ، فَلَمَّا تَثَبَّتُوا وَاسْتَقَامُوا أَخْبَرَهُمْ، أَوْ رَوَاهُ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْكِتْمَانِ، ثُمَّ إِنَّ مُعَاذًا مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ثَوَابُ نَشْرِ الْعِلْمِ وَوَبَالِ كَتْمِهِ، فَرَأَى التَّحَدُّثَ وَاجِبًا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَتْلُوهُ، فَأَخْبَرَ مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأْثَمًا، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُعَاذًا عَنِ التَّبْشِيرِ، وَأَخْبَرَ بِهِ مُعَاذٌ بَعْدَ تَبْشِيرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَلْزَمُ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّبْشِيرِ لَا عَنِ الْإِخْبَارِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

Success Habits

✩✩✩✩✩✩✩

25 – وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: « (يَا مُعَاذُ) قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
قَالَ: (يَا مُعَاذُ) قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ – ثَلَاثًا – قَالَ: قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا؛ فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

25 – (وَعَنْ أَنَسٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ أَنَّ وَخَبَرِهَا (قَالَ: يَا مُعَاذُ) قَالَ: أَيْ مُعَاذٌ (لَبَّيْكَ) : مُثَنَّى مُضَافٌ بُنِيَ لِلتَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ مِنْ لَبَّ: أَجَابَ أَوْ أَقَامَ، أَيْ أَجَبْتُ لَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، أَوْ أَقَمْتُ عَلَى طَاعَتِكَ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ (رَسُولَ اللَّهِ) : بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَمَالِ الْقُرْبِ (وَسَعْدَيْكَ) عَطْفٌ عَلَى لَبَّيْكَ، أَيْ سَاعَدْتُ طَاعَتَكَ مُسَاعَدَةً بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ ( «قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ» ) : تَكْرِيرُ النِّدَاءِ لِتَأْكِيدِ الِاهْتِمَامِ بِمَا يُخْبِرُ، وَلِيُكْمِلَ تَنْبِيهَ مُعَاذٍ فِيمَا يَسْمَعُهُ فَيَكُونُ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ وَأَشَدَّ فِي الضَّبْطِ وَالْحِفْظِ ( «قَالَ: يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا» ) أَيْ وَقَعَ هَذَا النِّدَاءُ وَالْجَوَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ كُلِّهَا بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ فِي رَسُولِ اللَّهِ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ وَجُودَهَا فِي الثَّالِثَةِ، فَأَطْنَبَ فِي تَوْجِيهِهِ (قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ مُكَرَّرًا، أَيْ قَالَ أَنَسٌ (قَالَ) – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ أَحَدٍ) ” مِنْ ” زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ، وَ ” أَحَدٍ ” مُبْتَدَأٌ، وَصِفَتُهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا) : مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَصْدُقُ صِدْقًا وَقَوْلُهُ: (مِنْ قَلْبِهِ) صِفَةُ ” صِدْقًا “؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ قَدْ لَا يَكُونُ مِنْ قَلْبِ أَيِّ اعْتِقَادٍ كَقَوْلِ الْمُنَافِقِ: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ بِمَعْنَى ” صَادِقًا ” حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَشْهَدُ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَوْلُهُ: (إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ مُحَرَّمٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا مُحَرَّمًا عَلَى النَّارِ، وَالتَّحْرِيمُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ، حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَنْ قَالَ الْكَلِمَةَ وَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرِيضَتُهَا فَيَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالِانْتِهَاءُ مُنْدَرِجَيْنِ تَحْتَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِمَنْ قَالَهَا عِنْدَ النَّدَمِ وَالتَّوْبَةِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِفَرْضٍ آخَرَ، وَهَذَا قَوْلُ الْبُخَارِيِّ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُرَادَ تَحْرِيمُ الْخُلُودِ.
(قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ؟) : فِي وَضْعِ أُخْبِرُ مَوْضِعَ أُبَشِّرُ، تَجْرِيدٌ أَوْ رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ اللُّغَةِ أَوِ اكْتِفَاءٌ بِقَوْلِهِ: (فَيَسْتَبْشِرُوا) أَيْ يَفْرَحُوا بِحَيْثُ يَظْهَرُ أَثَرُ السُّرُورِ عَلَى بَشَرَتِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْعَفْوِ إِذَا لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ (قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا) إِذَنْ حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِمَحْضِ الْجَوَابِ كَمَا هُنَا، أَيْ لَا تُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَهُمْ وَبِهَذِهِ الْبِشَارَةِ بَشَّرْتَهُمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى أَلْطَافِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَيَتْرُكُوا حَقَّ الْعُبُودِيَّةِ فَيَنْجَرُّوا إِلَى نُقْصَانِ دَرَجَاتِهِمْ، وَتَنْزِلُ حَالَاتُهُمْ، وَهَذَا حُكْمُ الْأَغْلَبِ مِنَ الْعَوَامِّ، وَإِلَّا فَالْخَوَاصُّ كُلَّمَا بُشِّرُوا زَادُوا فِي الْعِبَادَةِ كَمَا وَقَعَ لِلْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِذَا قَالَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: «أَتَقُومُ فِي اللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ – أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) » (فَأَخْبَرَ بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَوِ الْقِصَّةِ، أَوِ الْبِشَارَةِ (مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ) : لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ مَوْتِهِ إِلَى مُعَاذٍ.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(تَأْثَمًا) : مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ تُجَنُّبًا، وَتَحَرُّزًا عَنْ إِثْمِ كَتْمِ الْعِلْمِ، إِذْ فِي الْحَدِيثِ: ( «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ) .
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

healthy primal banner advert

✩✩✩✩✩✩✩

26 – «وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

26 – (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ) : هُوَ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَزُهَّادِهِمْ، أَسَلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ.
يُقَالُ: كَانَ خَامِسًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعْدَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ سَكَنَ رَبْذَةً إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
( «قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ» ) : حَالٌ مِنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الشُّرَّاحُ: هَذَا لَيْسَ مِنَ الزَّوَائِدِ الَّتِي لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، بَلْ قَصَدَ الرَّاوِي بِذَلِكَ أَنْ يُقَرِّرَ التَّثَبُّتَ وَالْإِتْقَانَ فِيمَا يَرْوِيهِ؛ لِيَتْمَكَنَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ.
قُلْتُ: أَوْ أَرَادَ التَّذَكُّرَ بِإِحْضَارِ طَلْعَتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتِحْضَارِ خُلْعَتِهِ اللَّطِيفَةِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ لَدَيْهِ وَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ (وَهُوَ نَائِمٌ) : عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ فَرَجَعْتُ، (ثُمَّ أَتَيْتُهُ) بَعْدَ زَمَانٍ (وَقَدِ اسْتَيْقَظَ) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَالْمَعْنَى فَوَجَدْتُهُ مُنْتَبِهًا مِنَ النَّوْمِ ( «فَقَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ بِدُونِهِ لَا يَنْفَعُ (ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الِاعْتِقَادِ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَوَاتِيمِ (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا حَالَ اسْتِحْقَاقِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَفِيهِ بِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ جَمَّةٌ، لَكِنَّ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى) قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ زَنَى مُقَدَّرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ أَيْ أَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ زَنَى (وَإِنْ سَرَقَ؟) أَوِ التَّقْدِيرُ: أَوْ إِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ دَخَلَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْوَاوُ وَاوَ الْمُبَالَغَةِ، وَ ” إِنْ ” بَعْدَهَا تُسَمَّى وَصْلِيَّةً، وَجَزَاؤُهَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهِ (قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟) وَتَخْصِيصُهُمَا لِأَنَّ الذَّنْبَ إِمَّا حَقُّ اللَّهِ وَهُوَ الزِّنَا، أَوْ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِي ذِكْرِهَا مَعْنَى الِاسْتِيعَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] أَيْ دَائِمًا ( «قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» ) أَمَّا تَكْرِيرُ أَبِي ذَرٍّ فَلِاسْتِعْظَامِ شَأْنِ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْكَبَائِرِ، وَقِيلَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ لَأَجَابَهُ بِجَوَابٍ آخَرَ فَيَجِدُ فَائِدَةً أُخْرَى، وَأَمَّا تَكْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَإِنْكَارٌ لِاسْتِعْظَامِهِ، أَيْ: أَتَبْخَلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ؟ فَرَحْمَةُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ عَلَى خَلْقِهِ وَإِنْ كَرِهْتَ ذَلِكَ.
(قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟) قَالَ: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ لَا يُسْلَبُ عَنْهُمُ اسْمُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وِفَاقًا، وَعَلَى أَنَّهَا لَا تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ لِتَعْمِيمِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – الْحُكْمَ وَعَدَمِ تَفْصِيلِهِ (عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ) الرَّغْمُ بِالْفَتْحِ أَشْهَرُ مِنَ الضَّمِّ، وَحُكِيَ الْكَسْرُ أَيِ الْكُرْهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ (وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ) أَيْ هَذَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (قَالَ) تُفَاخُرًا: (وَإِنْ رَغِمَ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ (أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ) أَيْ لُصِقَ بِالرَّغَامِ – بِالْفَتْحِ – وَهُوَ التُّرَابُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى كَرِهَ، أَوْ دَلَّ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

✩✩✩✩✩✩✩

27 – وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَقٌّ – أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» ” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

27 – (وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) مَرَّ ذِكْرُهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) حَالٌ، أَيْ يَنْفَرِدُ مُنْفَرِدًا (لَا شَرِيكَ لَهُ) : تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) الْأَجَلُّ (وَرَسُولُهُ) الْأَكْمَلُ (وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ) : لَمْ يُضْمِرْ لِيَكُونَ أَصْرَحَ فِي الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى وَتَقْرِيرٌ لِعَبْدِيَّتِهِ وَإِشْعَارٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا يَقُولُونَ بِهِ مِنِ اتِّخَاذِ أُمِّهِ صَاحِبَةً (وَرَسُولُهُ) تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ (وَابْنُ أَمَتِهِ) : كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالْإِضَافَةُ فِي أَمَتِهِ لِلتَّشْرِيفِ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ فِي الْقَذْفِ (وَكَلِمَتُهُ) : سُمِّيَ عِيسَى بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَبْدَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍّ، وَأَنْطَقَهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، فَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مُوجَدًا بِـ ” كُنْ “، وَقِيلَ: لَمَّا انْتَفَعَ بِكَلَامِهِ سُمِّيَ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ سَيْفُ اللَّهِ وَأَسَدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: لَمَّا خَصَّهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ أَوْصَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا، وَحَصَّلَهَا فِيهَا (وَرُوحٌ مِنْهُ) أَيْ مُبْتَدَأٌ مِنْ مَحْضِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ هِيَ كَالْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ أَرْوَاحِ آبَائِهِمْ، لَاسِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْسَامٌ سَارِيَةٌ فِي الْبَدَنِ سَرَيَانَ مَاءِ الْوَرْدِ، قِيلَ: سُمِّيَ بِالرُّوحِ لِمَا كَانَ لَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، فَكَّانِ كَالرُّوحِ، أَوْ لِأَنَّهُ ذُو رُوحٍ وَجَسَدٍ مِنْ غَيْرِ جُزْءٍ مِنْ ذِي رُوحٍ كَالنُّطْفَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَلَى حَيٍّ، وَإِنَّمَا اخْتُرِعَ اخْتِرَاعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِي نَفْخِ الرُّوحِ لِإِرْسَالِهِ جِبْرِيلَ إِلَى أُمِّهِ، فَنَفَخَ فِي دِرْعِهَا مَشْقُوقًا إِلَى قُدَّامِهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَيْهَا، فَحَمَلَتْ بِهِ مُقَدَّسًا عَنْ لَوْثِ النُّطْفَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ مِنَ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ” مِنْهُ ” إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُقَرَّبُهُ وَحَبِيبُهُ، تَعْرِيضًا بِالْيَهُودِ.

healthy primal banner advert

✩✩✩✩✩✩✩

رُوِيَ أَنَّ عَظِيمًا مِنَ النَّصَارَى سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: (وَرُوحٌ مِنْهُ) قَالَ: أَفَغَيْرُ هَذَا دِينُ النَّصَارَى؟ يَعْنِي أَنَّ هَذَا دِينُ النَّصَارَى، يَعْنِي أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى بَعْضٌ مِنْهُ.
فَأَجَابَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] فَلَوْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: (وَرُوحٌ مِنْهُ) أَنَّهُ بَعْضُهُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ لَكَانَ مَعْنَى ” جَمِيعًا مِنْهُ ” أَنَّ الْجَمِيعَ بَعْضٌ مِنْهُ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ، فَأَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ تَسْخِيرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَائِنٌ مِنْهُ وَحَاصِلٌ مِنْ عِنْدِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مُكَوِّنُهَا وَمُوجِدُهَا.
(وَالْجَنَّةُ) : مَنْصُوبٌ، وَيُرْفَعُ (وَالنَّارُ حَقٌّ) : مُبَالَغَةٌ كَزَيْدٍ عَدْلٍ، أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْ ثَابِتٌ، وَأُفْرِدَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ لِإِرَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَفِي كَلَامِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْجَنَّةَ جَنَّةُ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْكَرُوبِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ، وَطَبَقَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَعَالَمِ السَّمَاوَاتِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ رُوحُ السَّالِكِ كَالْمِرْآةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالِمِ الْقُدْسِ، وَأَشْجَارُهَا الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةَ وَالْأَخْلَاقَ السَّعِيدَةَ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْمَكَاسِبِ.
وَأَثْمَارُهَا الْمُكَاشَفَاتُ وَالْمُشَاهَدَاتُ وَالْإِشَارَاتُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَوَاهِبِ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْجَنَّةِ الْحِسِّيَّةِ فَهُوَ أَبْلَهٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ وَانْتَقَلَ مِنْ رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالْقُرْبِ إِلَى سِيَاسَةِ الْقَهْرِ وَالْبُعْدِ، وَانْحَطَّ عَنِ الْجِهَةِ الْعُلْوِيَّةِ إِلَى عَالِمِ النَّارِ – يُعَذَّبُ بِنَارٍ رُوحَانِيَّةٍ نَشَأَتْ مِنِ اسْتِيلَاءِ صِفَةِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ، فَيَكُونُ أَشَدَّ وَأَدْوَمَ إِيلَامًا مِنَ النَّارِ الْجُسْمَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَرَارَتَهَا تَابِعَةٌ لِنَارٍ رُوحَانِيَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ هِيَ شَرَرٌ مِنْ نَارِ غَضَبِ اللَّهِ بَعْدَ تَنَزُّلِهَا فِي مَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ كَتَنَزُّلِهَا فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ بِصُورَةِ الْغَضَبِ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ: إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ غُسِلَتْ بِالْمَاءِ سَبْعِينَ مَرَّةً، ثُمَّ أُنْزِلَتْ إِلَى الدُّنْيَا لِيُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا.
(أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) : ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ أَوْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
(عَلَى مَا كَانَ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ أَيْ كَائِنًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَوْصُوفًا بِهِ (مِنَ الْعَمَلِ) : حَسَنًا أَوْ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ.
[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ] : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

✩✩✩✩✩✩✩

28 – «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلِأُبَايِعَكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ: ” مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ ” قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، فَقَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: ” أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» “.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَدِيثَانِ الْمَرْوِيَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ” «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ) » ، وَالْآخَرُ: ” «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» “.
سَنَذْكُرُهُمَا فِي بَابَيِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

28 – (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) الْأَصَحُّ عَدَمُ ثُبُوتُ الْيَاءِ إِمَّا تَخْفِيفًا، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَجْوَفُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي ” الْقَامُوسِ ” الْأَعْيَاصُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْلَادُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَكْبَرِ، وَهُمُ الْعَاصِ، وَأَبُو الْعَاصِ، وَالْعِيصُ، وَأَبُو الْعِيصِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْعَاصِ بِالْيَاءِ وَلَا قِرَاءَتُهُ بِهَا، لَا وَقْفًا وَلَا وَصْلًا، فَإِنَّهُ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَصَى، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا وَقْفًا وَوَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ.
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقُلْتُ) أَيْ لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةِ (ابْسُطْ يَمِينَكَ) أَيِ افْتَحْهَا وَمُدَّهَا لِأَضَعَ يَمِينِي عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْبَيْعَةِ (فَلِأُبَايِعَكَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالتَّقْدِيرُ لِأُبَايِعَكَ، تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ، وَالْفَاءِ مُقْحَمَةٌ، وَقِيلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنَا أُبَايِعُكَ، وَأَقْحَمُ اللَّامَ تَوْكِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْأَمْرِ فَيُجْزَمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مَفْتُوحَةً وَالْعَيْنُ مَضْمُومَةً، وَالتَّقْدِيرُ فَلِأَجْلِ أَنْ أُبَايِعَكَ طَلَبْتُ بَسْطَ يَمِينِكَ.
(فَبَسَطَ يَمِينَهُ) أَيِ الْكَرِيمَةَ (فَقَبَضْتُ يَدِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَتُفْتَحُ أَيْ، إِلَى جِهَتِي، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: أَيْ نَفْسِي، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ (فَقَالَ أَيْ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – (مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟) أَيُّ شَيْءٍ خَطَرَ لَكَ حَتَّى امْتَنَعْتَ مِنَ الْبَيْعَةِ.
(قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ) : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ شَرْطًا أَوْ شَيْئًا، وَالْمَعْنَى أَرَدْتُ بِذَلِكَ الِامْتِنَاعَ أَنْ أَشْتَرِطَ لِنَفْسِي مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْانْتِفَاعِ (قَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا) قِيلَ: حَقُّ ” مَاذَا ” أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى ” تَشْتَرِطُ “؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الصَّدَارَةَ فَحُذِفَ ” مَاذَا “، وَأُعِيدَ بَعْدَ تَشْتَرِطُ تَفْسِيرًا لِلْمَحْذُوفِ، وَقِيلَ: كَأَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لَمْ يَسْتَحْسِنْ مِنْهُ الِاشْتِرَاطَ فِي الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَتَشْتَرِطُ؟ إِنْكَارًا، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَاذَا؟ أَيْ مَا الَّذِي تَشْتَرِطُ، أَوْ: أَيُّ شَيْءٍ تَشْتَرِطُ؟ وَقَالَ الْمَالِكِيُّ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: أَقُولُ: ” مَاذَا ” شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ ” مَا ” الِاسْتِفْهَامِيَّةَ إِذَا رُكِّبَتْ مَعَ ” ذَا ” تُفَارِقُ وُجُوبَ التَّصْدِيرِ، فَيَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا رَفْعًا وَنَصْبًا فَالرَّفْعُ كَقَوْلِكَ: كَانَ مَاذَا، وَالنَّصْبُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ وُقُوعُهَا تَمْيِيزًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ قَالَ: عِنْدِي عِشْرُونَ عِشْرُونَ مَاذَا (قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقِيلَ: لِلْفَاعِلِ أَيِ اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةِ (لِي) أَيْ أَشْتَرِطُ غُفْرَانَ ذُنُوبِي إِنْ أَسْلَمْتُ (قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو) أَيْ مِنْ حَقِّكَ مَعَ رَزَانَةِ عَقْلِكَ وَجَوْدَةِ رَأْيِكَ وَكَمَالِ حَذَقِكَ الَّذِي لَمْ يَلْحَقْكَ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَلَّا يَكُونَ خَفِيًّا عَنْ عِلْمِكَ (أَنَّ الْإِسْلَامَ) أَيْ إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّ إِسْلَامَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ (يَهْدِمُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ يَمْحُو (مَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيِ السَّيِّئَاتِ (وَأَنَّ الْهِجْرَةَ) أَيْ إِلَيَّ فِي حَيَاتِي، وَبَعْدَ وَفَاتِي مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا خَبَرُ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَهَا صَارُوا مُسْلِمِينَ (تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا) أَيْ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَهَا وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا الْمَظَالِمَ أَيْ مِنَ السَّيِّئَاتِ (وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ) أَيْ مِنَ التَّقْصِيرَاتِ سَقَطَ لَفْظُ كَانَ مِنْ أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ، فَتَكَلَّفَ لَهُ وَجْهًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ.
قَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مُطْلَقًا مَظْلَمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ وَالْحَجُّ فَإِنَّهُمَا لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ، وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِغُفْرَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاهُ، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى هَدْمِهِمَا الصَّغِيرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيُحْتَمَلُ هَدْمُهُمَا الْكَبَائِرَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ.
عَرَفْنَا ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَرَدَدْنَا الْمُجْمَلَ إِلَى الْمُفَصَّلِ، وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّارِحِينَ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يَمْحُو الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ كُفْرٍ وَعِصْيَانٍ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْحَجِّ وَالْهِجْرَةِ إِجْمَاعًا، وَلَا بِالْإِسْلَامِ لَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ مَالِيًّا أَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا وَكَانَ الْحَقُّ مَالِيًّا بِالِاسْتِقْرَاضِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَكَانَ الْمَالُ غَيْرَ الْخَمْرِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَجُّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ مِمَّا وَقَعَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا الْمَظَالِمَ، لَكِنْ بِشَرْطِ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ: ( «مِنْ حَجٍّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ) مَعَ ذَلِكَ فَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَعِيَاضٍ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ التَّبِعَاتِ، بَلِ الْكَبَائِرُ، إِذْ لَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَعِبَارَةُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ حُقُوقُ الْمَالِيَّةِ لَا تَنْهَدِمُ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ، وَفِي الْإِسْلَامِ خِلَافٌ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ إِجْمَاعًا اهـ.
نَعَمْ يَجُوزُ بَلْ يَقَعُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ لِعَاصٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ تَبِعَاتٌ عُوِّضَ صَاحِبُهَا مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَفْوِهِ وَرِضَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْحَجَّ يُكَفِّرُ التَّبِعَاتَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ «أَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ فَلَمْ يُجَبْ لِمَغْفِرَتِهَا، فَدَعَا صَبِيحَةَ مُزْدَلِفَةَ بِذَلِكَ فَضَحِكَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لَمَّا رَأَى مِنْ جَزَعِ إِبْلِيسَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ عُمُومِ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ» ، فَيَرُدُّهُ أَنَّ الْحَدِيثَ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ اهـ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُ الْمَظَالِمِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، أَوْ يُقَيَّدُ بِالتَّوْبَةِ، أَوِ التَّخْصِيصِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – مِنْ أُمَّتِهِ فِي حِجَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُصِرًّا عَلَى مَعْصِيَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالْحَدِيثَانِ الْمَرْوِيَّانِ) أَيِ الْمَذْكُورَانِ هُنَا فِي الْمَصَابِيحِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) : أَوَّلُهُمَا: ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» ) : إِلَخْ (وَالْآخَرُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» ) : إِلَخْ.
(سَنَذْكُرُهُمَا فِي بَابِ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، يَعْنِي الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الرِّيَاءِ، وَالثَّانِي نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْكِبَرِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ أَنْسَبُ بِالْبَابَيْنِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

✩✩✩✩✩✩✩

islamship banner

**********
الْفَصْلُ الثَّانِي
**********
29 – «عَنْ مُعَاذٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ.
قَالَ: ” لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لِيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ “، ثُمَّ قَالَ: ” أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةُ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ” ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ، ثُمَّ قَالَ: ” أَلَا أَدُلُّكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ ” قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ” رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ “، ثُمَّ قَالَ: ” أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ ” قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: ” كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا.
فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ – إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» ” رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ
**********
الْفَصْلُ الثَّانِي
**********
أَيِ الْمُعَبِّرُ بِهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْحِسَانِ فِي الْمَصَابِيحِ.
29 – (عَنْ مُعَاذٍ) أَيِ ابْنِ جَبَلٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ أَصَابَنَا الْحَرُّ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَقْرَبُهُمْ مِنِّي فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَقُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ) التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلنَّوْعِ، أَيْ عَمَلٍ عَظِيمٍ أَوْ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ، فَلَا يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ ” يُدْخِلُنِي ” جَوَابَ الْأَمْرِ يَبْقَى ” بِعَمَلٍ ” نَكِرَةً غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ، وَهِيَ لَا تُفِيدُ.
(يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ عَمَلٍ إِمَّا مُخَصِّصَةٌ، أَوْ مَادِحَةٌ، أَوْ كَاشِفَةٌ، فَإِنَّ الْعَمَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَأَنَّهُ لَا عَمَلٌ، وَبِالْجَزْمِ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ هُوَ صِفَتُهُ أَيْ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ إِنْ أَعْمَلْهُ يُدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، وَقِيلَ: جَزْمٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ إِنْ تُخْبِرْنِي يُدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، يَعْنِي أَنَّهُ الْخَبَرُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ إِلَى الْإِدْخَالِ، وَإِسْنَادُ الْإِدْخَالِ إِلَى الْعَمَلِ إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ أَوْ شِبْهِ الْعَمَلِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْمَطْلُوبِ بِالْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ، أَوِ الْمَعْنَى يُدْخِلُنِي لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِفَضْلِ اللَّهِ يَجْعَلُهُ سَبَبًا لِدُخُولِهَا، وَقِيلَ: الْجَزْمُ غَيْرُ صَحِيحٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً.
أَقُولُ: فَكَأَنَّهُ نَظَرَ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ دِرَايَةً أَنَّ الْإِخْبَارَ لَيْسَ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، بَلِ الْعَمَلُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إِخْبَارَهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – وَسِيلَةٌ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَالْإِخْبَارُ سَبَبٌ بِوَجْهٍ مَا لِإِدْخَالِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ ” يُقِيمُوا ” فِي {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] وَغَيْرَهُ ” يَغْفِرْ لَكُمْ ” فِي {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] الْآيَةَ – هُوَ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ لَمَّا كَانَ مَظِنَّةً لِلِامْتِثَالِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ مِنْهُ ذَلِكَ.
(وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ) : عَطْفٌ عَلَى يُدْخِلُنِي بِالْوَجْهَيْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَالِكٍ هُنَا بِالرَّفْعِ فَقَطْ مَعَ تَجْوِيزِهِ الْوَجْهَيْنِ أَوَّلًا فِي غَايَةٍ مِنَ السُّقُوطِ، ثُمَّ الْعَطْفُ يُفِيدُ أَنَّ مُرَادَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عَذَابٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ أُخْرِجَ عَلَى صِيغَةِ الْمُغَالَبَةِ لِلْمُبَالَغَةِ.
(قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (لَقَدْ سَأَلْتَ) أَيْ مِنِّي (عَنْ عَظِيمٍ) أَيْ شَيْءٍ عَظِيمٍ، أَوْ سُؤَالٍ عَظِيمٍ مُتَعَسِّرِ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ وَالتَّبَاعُدَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَسَبَبُهُ الَّذِي هُوَ اجْتِنَابُ كُلِّ مَحْظُورٍ وَامْتِثَالُ كُلِّ مَأْمُورٍ أَيْضًا كَذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْعَمَلِ الْمُدْخَلِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ عَنْ عَمَلٍ عَظِيمٍ فِعْلُهُ عَلَى النُّفُوسِ؛ لِيُطَابِقَ السَّابِقَ وَاللَّاحِقَ، وَالْعَظِيمُ ضِدُّ الْحَقِيرِ، كَالْكَبِيرِ نَقِيضُ الصَّغِيرِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَقِيرَ دُونَ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ الْعَظِيمُ فَوْقَ الْكَبِيرِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ فِي الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي، تَقُولُ: رَجُلٌ عَظِيمٌ وَكَبِيرٌ أَيْ جُثَّتُهُ أَوْ قَدْرُهُ (وَأَنَّهُ) أَيْ جَوَابُهُ أَوْ فِعْلُهُ (لَيَسِيرٌ) أَيْ هَيِّنٌ وَسَهْلٌ (عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ) وَفِي نُسْخَةٍ: (تَعَالَى) أَيْ جَعَلَهُ سَهْلًا (عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ) إِمَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، وَإِمَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَعْوِيلًا عَلَى أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، أَيْ هُوَ أَنْ تَعْبُدُ أَيِ الْعَمَلُ الَّذِي يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ عِبَادَتُكَ اللَّهَ بِحَذْفِ أَنْ، أَوْ تَنْزِيلُ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ، وَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ كَأَنَّهُ مُتَسَارِعٌ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ إِظْهَارًا لِرَغْبَتِهِ فِي وُقُوعِهِ، وَفَصْلِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهِ بَيَانًا أَوِ اسْتِئْنَافًا، وَفِيهِ بَرَاعَةُ الِاسْتِهْلَالِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: كُفَّ عَلَيْكَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْقَطْعِ، وَالْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّوْحِيدُ؛ لِقَوْلِهِ: ( «وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا» ) أَوِ الْأَعَمُّ مِنْهُ لِيَعُمَّ امْتِثَالَ كُلِّ مَأْمُورٍ وَاجْتِنَابَ كُلِّ مَحْظُورٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ إِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِبَادَةِ فَلِأَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ أَوْلَى، وَالتَّنْوِينُ فِي شَيْئًا لِلْإِفْرَادِ شَخْصًا، كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ: ” عَظِيمٍ ” لِلتَّعْظِيمِ، وَفِي يَسِيرٍ لِلتَّقْلِيلِ (وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ) : مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى إِنَافَتِهِ إِنْ عَمَّمَ الْعِبَادَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَكْتُوبَةُ.
وَهَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِمُعَاذٍ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ؛ إِذِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ثُمَّ تَوَقُّفُ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى الْأَعْمَالِ إِنَّمَا هُوَ بِقَيْدِ الدُّخُولِ الْأَوْلَى كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَلَا مُسْتَمْسِكَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَدَيْهِ.
(وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ) أَيِ الْمَفْرُوضَةَ (وَصَوْمُ رَمَضَانَ) أَيِ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَةُ (وَتَحُجُّ الْبَيْتَ) أَيْ بِالْأَفْعَالِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً.
(ثُمَّ قَالَ) أَيْ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – زِيَادَةً عَلَى الْإِفَادَةِ بِالْحَثِّ عَلَى النَّوَافِلِ لِتَحْصِيلِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، أَوْ لِتَكْمِيلِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (أَلَا أَدُلُّكَ) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَلَا لِلنَّفْيِ وَهُوَ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ قُلْتُ: بَلَى كَانَ مَوْجُودًا هُنَا أَيْضًا كَمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَهُ، فَنَسِيَ الرَّاوِي، كَذَا قِيلَ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي لِي أَلَّا أَدُلُّكَ مَعَ أَنِّي الْمُرْشِدُ الْكَامِلُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ لِئَلَّا يُنْسَبَ الرُّوَاةَ إِلَى النِّسْيَانِ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ مَطْلُوبِيَّةً لِدَلَالَتِهِ، أَوْ يُقَالُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – حَتَّى يَقُولَ مُعَاذٌ ” بَلَى ” هُنَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ تَصْدِيقَهُ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهِ (عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟) أَيِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ بِهِ، شَبَّهَ الْخَيْرَ بِدَارٍ فِيهَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّاهُ النَّفْسُ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، جَعَلَ الْأُمُورَ الْآتِيَةَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَكَذَا إِخْرَاجُ الْمَالِ فِي الصَّدَقَةِ لَا سِيَّمَا الزِّيَادَةُ عَلَى الزَّكَاةِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الَّذِي مَحَلُّ رَاحَةِ النَّفْسِ، وَالْبُعْدُ مِنَ الرِّيَاءِ، فَمَنِ اعْتَادَهَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي دُخُولِ الدَّارِ تَكُونُ بِفَتْحِ الْبَابِ.
(الصَّوْمُ جُنَّةٌ) أَيْ سِتْرٌ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ فِي الْجُوعِ سَدُّ مَجَارِي الشَّيْطَانِ، فَإِذَا سَدَّ مَجَارِيهِ لَمْ يَدْخُلْ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلْعِصْيَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ.
قِيلَ: التَّقْدِيرُ صَوْمُ النَّفْلِ، فَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ شُرَّاحِ الْأَرْبَعِينَ: وَلَعَلَّ قَائِلَهُ كُوفِيٌّ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] أَيْ مَأْوَاهُ، فَإِنَّ اللَّامَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ بَلْ لِلتَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ الطَّاغِي صَاحِبُ الْمَأْوَى تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ، فَكَذَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا مِنَ النَّوَافِلِ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْمَعْهُودِ كَمَا ظَنَّ، بَلْ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْقَرَائِنِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ: أَغْلِقِ الْبَابَ، وَكَمْ مِثْلُهَا.
قَوْلُهُ: (جُنَّةٌ) أَيْ وِقَايَةٌ مِنْ سَوْرَةِ الشَّهْوَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارِ فِي الْعُقْبَى كَالْجَنَّةِ، فَفِيهِ تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّ مَثَلَهُ اسْتِعَارَةٌ، فَمَنْ كَانَ الصَّوْمُ جُنَّتَهُ سَدَّ طُرُقَ الشَّيَاطِينِ عَنْ قَلْبِهِ فَيَكْشِفُ بَعْدَ إِزَالَةِ ظُلْمَتِهِمْ، يَرَى بِنُورِ الْغَيْبِ خَزَائِنَ لَطَائِفِ حُكْمِ الصِّفَاتِ فَيَسْتَتِرُ بِأَنْوَارِهَا عَنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْآفَاتِ.
( «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» ) أَيِ الَّتِي تَجُرُّ إِلَى النَّارِ.
يَعْنِي تُذْهِبُهَا وَتَمْحُو أَثَرَهَا أَيْ إِذَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَدْفَعُ تِلْكَ الْحَسَنَةَ إِلَى خَصْمِهِ عِوَضًا عَنْ مَظْلِمَتِهِ ( «كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» ) لِتَنَافِي آثَارِهِمَا بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ، إِذِ الْأَشْيَاءُ لَا تَعْمَلُ بِطَبْعِهَا، فَلَا الْمَاءُ يُرْوَى، وَلَا الْخُبْزُ يُشْبِعُ، وَلَا النَّارُ تُحْرِقُ.
(وَصَلَاةُ الرَّجُلِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ (فِي جَوْفِ اللَّيْلِ) كَذَلِكَ، أَيْ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، أَوْ هِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقِيلَ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدَّرَ الْخَبَرُ شِعَارَ الصَّالِحِينَ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ (ثُمَّ تَلَا) أَيْ قَرَأَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة: 16] أَيْ تَتَبَاعَدُ، وَفِي النِّسْبَةِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى {عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] أَيِ الْمَفَارِشِ وَالْمَرَاقِدِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ إِحْيَاءُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة: 16] بِالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالدُّعَاءِ {خَوْفًا} [السجدة: 16] مِنْ سَخَطِهِ {وَطَمَعًا} [السجدة: 16] فِي رَحْمَتِهِ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [السجدة: 16] وَبَعْضِ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ {يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] يَصْرِفُونَ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ أَيْ أَنَّهُمْ جَامِعُونَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، عَابِدُونَ زَاهِدُونَ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ} [السجدة: 17] أَيْ لَا مَلِكَ وَلَا نَبِيَّ {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} [السجدة: 17] جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مَاضٍ مَجْهُولٌ، وَقُرِئَ بِهَمْزَةٍ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْلُومِ {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] مِنَ اللَّذَّاتِ الَّتِي تَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ، وَتَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ» ) (حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ) وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] أَيْ جُوزُوا جَزَاءً بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ وَبِمُقَابَلَةِ أَفْعَالِهِمْ وَمُوَافَقَةٍ لِأَحْوَالِهِمْ.
(ثُمَّ قَالَ) أَيْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( «أَلَا أَدُلُّكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ» ) أَيْ مُخْبِرًا بِأَصْلِ كُلِّ أَمْرٍ (وَعَمُودِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ مَا يَقُومُ بِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ؟) : الذِّرْوَةُ بِكَسْرِ الذَّالِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِضَمِّهَا، وَحُكِيَ فَتْحُهَا – أَعْلَى الشَّيْءِ، وَالسَّنَامُ – بِالْفَتْحِ – مَا ارْتَفَعَ مِنْ ظَهْرِ الْجَمَلِ قَرِيبَ عُنُقِهِ ( «قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ» ) أَيْ أَمْرُ الدِّينِ (الْإِسْلَامُ) يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْمَقْلُوبِ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الْإِسْلَامِ بِرَأْسِ الْأَمْرِ؛ لِيَشْعُرَ بِأَنَّهُ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ فِي احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ بَقَائِهِ دُونَهُ (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ) : يَأْتِ الْإِسْلَامُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَكَمَالٌ كَالْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَمُودٌ، فَإِذَا صَلَّى وَدَاوَمَ قَوِيَ دِينُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِفْعَةٌ، فَإِذَا جَاهَدَ حَصَلَ لِدِينِهِ رِفْعَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى صُعُوبَةِ الْجِهَادِ وَعُلُوِّ أَمْرِهِ وَتَفَوُّقِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَالْجِهَادُ مِنَ الْجَهْدِ – بِالْفَتْحِ – وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، أَوْ بِالضَّمِّ وَهُوَ الطَّاقَةُ؛ لِأَنَّهُ يَبْذُلُ الطَّاقَةَ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ عِنْدَ فِعْلِ الْعَدُوِّ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ بِضَمِّ جُهْدِهِ إِلَى جُهْدِ أَخِيهِ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ كَالْمُسَاعَدَةِ، وَهِيَ ضَمُّ سَاعِدِهِ إِلَى سَاعِدِ أَخِيهِ لِتَحْصِيلِ الْقُوَّةِ، وَلَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ جِهَادِ الْأَعْدَاءِ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَجِهَادُ النَّفْسِ بِحَمْلِهَا عَلَى اتِّبَاعِ الْأَحْكَامِ، وَتَرْكِ الْحُظُوظِ، وَتَكْلِيفِ الْخَصْلَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُفْرِطَةِ خِلَافَ مُقْتَضَاهَا، وَالْعَمَلِ بِنَقِيضِ مُوجِبِهَا حَتَّى اعْتَدَلَتْ وَتَنَاسَقَتْ قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَدْلِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ؛ وَلِذَا وَرَدَ: ( «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْأَكْبَرِ» ) ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ كَالْمَلِكِ فِي دَاخِلِ الْإِنْسَانِ، وَعَسْكَرُهُ الرُّوحُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا عَمْيَاءُ لَا تُبْصِرُ الْمَهَالِكَ، وَلَا تُمَيِّزُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ إِلَى أَنْ يُنَوِّرَ اللَّهُ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ بَصِيرَتَهَا، فَتُبْصِرُ الْأَعْدَاءَ وَالْمَعَارِفَ، وَتَجِدُ الْبُنْيَانَ الْإِنْسَانِيَّ مَمْلُوءًا مِنْ خَنَازِيرِ الْحِرْصِ، وَتَكَالُبِ الْكَلْبِ، وَنَمِرِ الْغَضَبِ، وَالشَّهْوَةِ الْحِمَارِيَّةِ، وَحَيَّةِ الشَّيْطَانِ، فَكَنَسَتْهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَزَيَّنَتْهَا بِالْفَضَائِلِ، وَأَمَّا جِهَادُ الْقَلْبِ فَتَصْفِيَتُهُ وَقَطْعُ تَعَلُّقِهِ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَجِهَادُ الرُّوحِ بِإِفْنَاءِ الْوُجُودِ فِي وُجُودِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
(ثُمَّ قَالَ) أَيْ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟) : الْمِلَاكُ مَا بِهِ إِحْكَامُ الشَّيْءِ أَوْ تَقْوِيَتُهُ، مِنْ مَلَكَ الْعَجِينَ إِذَا أَحْسَنَ عَجْنَهُ وَبَالَغَ فِيهِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَكْسِرُونَ الْمِيمَ وَيَفْتَحُونَهَا، وَالرِّوَايَةُ بِالْكَسْرِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِلَى هَذَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: ” كُلِّهِ “؛ لِئَلَّا يُظَنَّ خِلَافُ الشُّمُولِ، أَيْ بِمَا تَقُومُ بِهِ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ جَمِيعُهَا.
(قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ) لَا يَخْفَى مُنَاسَبَةُ نَبِيِّ اللَّهِ بِالْإِخْبَارِ كَمُنَاسَبَةِ الرِّسَالَةِ بِالدَّلَالَةِ (فَأَخَذَ) أَيِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (بِلِسَانِهِ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقِيلَ: الْبَاءُ لِتَضْمِينِ مَعْنَى التَّعَلُّقِ (وَقَالَ: كُفَّ) الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ امْنَعْ (عَلَيْكَ هَذَا) : إِشَارَةٌ إِلَى اللِّسَانِ أَيْ لِسَانَكَ الْمُشَافِهَ لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَنْصُوبِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِـ ” عَلَى ” لِلتَّضْمِينِ أَوْ بِمَعْنَى ” عَنْ “، وَإِيرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ التَّعْيِينِ أَوْ لِلتَّحْقِيرِ، وَهُوَ مَفْعُولُ كُفَّ، وَإِنَّمَا أَخَذَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِلِسَانِهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اكْتِفَاءٍ بِالْقَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللِّسَانِ صَعْبٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَتَكَلَّمْ بِمَا لَا يَعْنِيكَ؛ فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَلِكَثْرَةِ الْكَلَامِ مَفَاسِدُ لَا تُحْصَى، وَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَعَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ، وَلِذَا قَالَ الصِّدِّيقُ: لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسَ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
(قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ) : أَتَقُولُ هَذَا؟ .
(وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ) بِالْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ، أَيْ هَلْ يُؤَاخِذُنَا وَيُعَاقِبُنَا أَوْ يُحَاسِبُنَا رَبُّنَا (بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟) : يَعْنِي بِجَمِيعِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى عَلَى مُعَاذٍ الْمُؤَاخَذَةَ بِبَعْضِ الْكَلَامِ (قَالَ) أَيْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (يَا مُعَاذُ) أَيْ فَقَدْتُكَ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يُرَادُ وُقُوعُهُ، بَلْ هُوَ تَأْدِيبٌ وَتَنْبِيهٌ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَتَعْجِيبٌ وَتَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ، (وَهَلْ يَكُبُّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْكَافِ مِنْ كَبَّهُ، إِذَا صَرَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ أَكَبَّ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ، وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: هَلْ تَظُنُّ غَيْرَ مَا قُلْتُ؟ وَهَلْ يَكُبُّ (النَّاسَ) أَيْ يُلْقِيهِمْ وَيُسْقِطُهُمْ وَيَصْرَعُهُمْ ( «فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ» ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَنْخِرُ – بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا – ثَقْبُ الْأَنْفِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَنْفُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلنَّفْيِ، خَصَّهُمَا بِالْكَبِّ لِأَنَّهُمَا أَوَّلُ الْأَعْضَاءِ سُقُوطًا (إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) أَيْ مَحْصُودَاتُهَا، شَبَّهَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِالْمِنْجَلِ، وَهُوَ مِنْ بَلَاغَةِ النُّبُوَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِنْجَلَ يَقْطَعُ وَلَا يُمَيِّزُ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ وَالْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ، فَكَذَلِكَ لِسَانُ بَعْضِ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْكَلَامِ حَسَنًا وَقَبِيحًا، وَالْمَعْنَى لَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْقَذْفِ، وَالشَّتْمِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْبُهْتَانِ، وَنَحْوِهَا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَارِدٌ عَلَى الْأَغْلَبِ أَيْ عَلَى الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّكَ إِذَا جَرَّبْتَ لَمْ تَجْدِ أَحَدًا حَفِظَ لِسَانَهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٍ يُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ إِلَّا نَادِرًا، وَلَعَمْرُكَ إِنَّ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ فَاتِحَةُ السَّعَادَةِ الْكُبْرَى، فَائِحَةٌ مِنْهَا نَسَائِمُ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الشَّرِيعَةِ فَكَفُّ اللِّسَانِ نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى حِفْظِهَا، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى الطَّرِيقَةِ فَهُوَ الرُّكْنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ وَالْقُطْبُ الْمُدَارُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ اللِّسَانُ نَطَقَ الْقَلْبُ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْمُسَامَرَةُ مَعَ الرَّبِّ، وَيُمْطِرُ عَلَيْهِ سَحَائِبَ الرَّحْمَةِ بِقَطَرَاتِ النُّورِ، وَيَمْتَلِئُ مِنَ الْخُيُورِ وَالْحُبُورِ، وَلَوْ نَظَرَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ نِهَايَةُ مَرَاتِبِ السَّالِكِينَ وَغَايَةُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ؛ وَلِذَا وَرَدَ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ، أَيْ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَكَلَّ لِسَانُهُ عَنْ مَقَامِ الدَّعْوَى، وَهُوَ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ، وَكَلَّ لِسَانُهُ عَنْ نَشْرِ حَالَةِ وَبَيَانِ مَقَامِهِ، وَهُوَ مَقَامُ صَوْلَةِ الْمَحَبَّةِ، وَعَنْ وَصْفِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ، وَهُوَ مَقَامُ الْحَيْرَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ، كَمَا قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي أَقْصَى الدُّنُوِّ لَمَّا رَأَى الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَفَنَى عَنِ الصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ، وَوَجَدَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَقَاءَ: ( «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ) ؛ لِأَنَّ ثَنَاءَهُ يَصْدُرُ عَنِ الْحُدُوثِيَّةِ، وَثَنَاءُ الْخَلِيقَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِمْ، ثُمَّ قَطَعَ لِسَانَ الثَّنَاءِ بِمِقْرَاضِ التَّنْزِيهِ عَجْزًا فِي جَلَالِ الْأَبَدِ، وَأَضَافَ ثَنَاءَهُ تَعَالَى إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ: ( «أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ) ، وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ: احْفَظْ لِسَانَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
لَا يَلْدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعْبَانُ كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ لِسَانِهِ
كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

✩✩✩✩✩✩✩

30 – وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» ” رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

Business and Website Traffic

30 – (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَفْخِيمِ الْمِيمِ، بَاهِلِيٌّ سَكَنَ بِمِصْرَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى حِمْصَ وَمَاتَ بِهَا، وَكَانَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَكْثَرُ حَدِيثِهِ عَنِ الشَّامِيِّينَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِسَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَلَهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحَبَّ) أَيْ شَيْئًا أَوْ شَخْصًا، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِيَذْهَبَ الْوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ (لِلَّهِ) : لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، وَلَا لِشَهْوَةِ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ (وَأَبْغَضَ لِلَّهِ) كَذَلِكَ (وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ) وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، فَتَكَلَّمَ لِلَّهِ، وَسَكَتَ لِلَّهِ، وَاخْتَلَطَ بِالنَّاسِ لِلَّهِ، وَاعْتَزَلَ عَنِ الْخَلْقِ لِلَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام: 162] وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَفْعَالَ الْأَرْبَعَةَ لِأَنَّهَا حُظُوظٌ نَفْسَانِيَّةٌ، إِذْ قَلَّمَا يُمَحِّضُهَا الْإِنْسَانُ لِلَّهِ، فَإِذَا مَحَّضَهَا مَعَ صُعُوبَةِ تَمْحِيضِهَا كَانَ تَمْحِيضُ غَيْرِهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلِذَا أَشَارَ إِلَى اسْتِكْمَالِ الدِّينِ بِتَمْحِيضِهَا بِقَوْلِهِ: (فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَكْمَلَهُ، وَعُدِّيَ إِلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ لِزِيَادَةِ السِّينِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِتَجْرِيدِهِ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا آخَرَ يُطْلَبُ مِنْهُ إِكْمَالُ الْإِيمَانِ، وَنَظِيرُهُ: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] أَيْ يَطْلُبُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْفَتْحَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ أَيْ تَكَمَّلَ إِيمَانُهُ.
(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

✩✩✩✩✩✩✩

31 – وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَفِيهِ: فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ “.

islamship banner

31 – (وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : لَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بَلْ (عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَفِيهِ) أَيْ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ فِي مَرْوِيِّ مُعَاذٍ (فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ) بِالْإِضَافَةِ.

✩✩✩✩✩✩✩

32 – وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» “.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

32 – (وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) أَيِ الْبَاطِنِيَّةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى حَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ وَالشُّهُودِ، فَـ ” أَلْ ” لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ؛ إِذِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَتَيْنِ.
(الْحُبُّ فِي اللَّهِ) أَيْ لِوَجْهِهِ وَفِي سَبِيلِهِ (وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) أَيْ لِأَجْلِهِ وَفِي حَقِّهِ، وَالْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ مُتَفَرِّعَانِ عَلَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ؛ وَلِذَا اكْتَفَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْأَصْلَيْنِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَهَذَا الرَّجُلُ الْمَجْهُولُ هُوَ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَبِي ذَرٍّ: ( «أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَشْرَفُ، بَلْ أَوْثَقُ؟» ) قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: ( «الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» ) اهـ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُوَالَاةِ وَالْحُبِّ أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَالْحُبُّ أَعَمُّ.

ART OF ASKING A LADY OUT

✩✩✩✩✩✩✩

33 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» ” رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

33 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» ) : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (وَالْمُؤْمِنُ) أَيِ الْكَامِلُ (مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ) : كَعَلِمَهُ أَيِ ائْتَمَنَهُ، يَعْنِي جَعَلُوهُ أَمِينًا وَصَارُوا مِنْهُ عَلَى أَمْنٍ (عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) لِكَمَالِ أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَعَدَمِ خِيَانَتِهِ، وَحَاصِلُ الْفِقْرَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَصْحِيحِ اشْتِقَاقِ الِاسْمَيْنِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ فَهُوَ كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَرِيمٌ وَلَا كَرَمَ لَهُ.
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ فِي التَّصْحِيحِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، بَلْ هُوَ مَقْطَعٌ فِيهَا، فَتَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ( «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» ) وَبَاقِيُّهُ جَاءَ مُقَطَّعًا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِإِسْنَادِهِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْمُؤْمِنَ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهُوَ حَدِيثٌ جَلِيلٌ اشْتَمَلَ عَلَى أُصُولٍ كَثِيرَةٍ فِي الدِّينِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

Success Habits

✩✩✩✩✩✩✩

34 – وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ” شُعَبِ الْإِيمَانِ ” بِرِوَايَةِ فَضَالَةَ: ” «وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» “.

34 – (وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِرِوَايَةِ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ هُوَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ، ثُمَّ شَهِدَ مَا بَعْدَهَا، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ فَسَكَنَ دِمَشْقَ، وَقَضَى بِهَا لِمُعَاوِيَةَ زَمَنَ خُرُوجِهِ بِصِفِّينَ، وَمَاتَ بِهَا فِي عَهْدِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، رَوَى عَنْهُ مَيْسَرَةُ مَوْلَاهُ، وَغَيْرُهُ.
(وَالْمُجَاهِدُ) أَيِ الْحَقِيقِيُّ ( «مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ» ) إِذْ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، وَيَنْشَأُ مِنْهُ الْجِهَادُ الْأَصْغَرُ.
(وَالْمُهَاجِرُ) أَيِ الْكَامِلُ ( «مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» ) أَيْ تَرَكَ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، وَقِيلَ: الذَّنْبُ أَعَمُّ مِنَ الْخَطِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَنْ عَمْدٍ بِخِلَافِ الْخَطِيئَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ التَّمَكُّنُ مِنَ الطَّاعَةِ بِلَا مَانِعٍ، وَالتَّبَرُّؤُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي اكْتِسَابِ الْخَطَايَا، فَالْهِجْرَةُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا، فَالْمُهَاجِرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْمُتَجَانِبُ عَنْهَا.

Nikahdating Advert

✩✩✩✩✩✩✩

35 – وَعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَّا قَالَ: ” «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» “.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ” شُعَبِ الْإِيمَانِ “.

35 – (وَعَنْ أَنَسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَ) : ” مَا ” مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ قَلَّ خُطْبَةً خَطَبَنَا (رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، أَيْ مَا وَعَظَنَا (إِلَّا قَالَ) أَيْ فِيهَا، وَلَعَلَّ الْحَصْرَ غَالِبِيٌّ.
(لَا إِيمَانَ) أَيْ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ) : فِي النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ، وَقِيلَ: فِيمَا اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي كُلِّفَ بِهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ.
وَالْإِنْسَانُ فِيهَا هُوَ آدَمُ ثُمَّ ذُرِّيَّتُهُ، وَمَعَ كَوْنِهِ ظَلُومًا أَيْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالْتِزَامِهِ بِحَمْلِ مَا فِيهِ كُلْفَةً عَظِيمَةً عَلَيْهَا الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قِيَامِهَا بِهِ لَا سِيَّمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ – جَهُولًا؛ لِأَنَّهُ جَهِلَ خَطَرَ تِلْكَ الْأَمَانَةِ وَمَشَقَّةَ رِعَايَتِهَا عِنْدَ تَحَمُّلِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا انْتَفَى كَمَالُ الدِّينِ بِانْتِفَائِهَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ، وَالْأَبْضَاعِ، وَالنُّفُوسِ، وَهَذِهِ فَوَاحِشُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ وَتَقْهَرُهُ إِلَى أَلَّا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا أَقَلُّهُ، بَلْ رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الْكُفْرِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ (وَلَا دِينَ) ] عَلَى طَرِيقِ الْيَقِينِ (لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) بِأَنْ غَدَرَ فِي الْعَهْدِ وَالْيَمِينِ، قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ وَأَمْثَالُهُ وَعِيدٌ لَا يُرَادُ بِهِ الِانْقِلَاعُ بَلِ الزَّجْرُ وَنَفْيُ الْفَضِيلَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَادَ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ ثَانِي الْحَالِ فِي الْكُفْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ( «مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» ) .
(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَكَذَا رَوَاهُ مُحْيِي السُّنَّةِ أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ بِإِسْنَادِهِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَاتٍ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا، وَلَفْظُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ( «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْتَقِيمُ دِينُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) .
فَقِيلَ: مَا الْبَوَائِقُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (غَشْمُهُ، وَظُلْمُهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ أَصَابَ مَالًا مِنْ حَرَامٍ وَأَنْفَقَ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَمَا بَقِيَ فَزَادُهُ إِلَى النَّارِ، أَلَا إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يُكَفِّرُ الْخَبِيثَ، وَلَكِنَّ الطَّيِّبَ يُكَفِّرُ» ) .

islamship banner

✩✩✩✩✩✩✩

**********
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
**********
36 – عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ” «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ» ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

**********
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
**********
الْمُرَادُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُلْحَقَةُ بِالْبَابِ، أَلْحَقَهَا صَاحِبُ الْكِتَابِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِأَنْ تَكُونَ مِمَّا أَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَلَا بِأَنْ تَكُونَ عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ.
36 – (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ) هَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ كَثِيرًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَنْصُوبَيْنِ بَعْدَ ” سَمِعْتُ “، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَفْعُولٌ، وَجُمْلَةُ يَقُولُ حَالٌ، أَيْ سَمِعْتُ كَلَامَهُ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ لَا يَقَعُ عَلَى الذَّوَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْمَحْذُوفِ بِالْحَالِ الْمَذْكُورَةِ، فَهِيَ حَالٌ مُبَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، وَاخْتَارَ الْفَارِسِيُّ أَنَّ مَا بَعْدَ ” سَمِعْتُ ” إِنْ كَانَ مِمَّا يُسْمَعُ كَـ ” سَمِعْتُ الْقُرْآنَ ” تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا كَمَا هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، فَجُمْلَةُ ” يَقُولُ ” عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ ثَانٍ.
وَقِيلَ: يَنْبَغِي جَوَازُ حَذْفِ ” يَقُولُ ” هَذَا خَطًّا، كَمَا يَجُوزُ حَذْفُ ” قَالَ ” خَطًّا فِي نَحْوِ ” حَدَّثَنَا ” مَفْعُولُ ” قَالَ ” أَيْ: قَالَ حَدَّثَنَا، وَرُدَّ بِأَنَّ حَذْفَ ” يَقُولُ ” مُلْبِسٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْرِي حِينَئِذٍ أَهْوَ يَقُولُ أَمْ قَالَ، بِخِلَافِ حَذْفِ ” قَالَ ” مِمَّا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ فَلَا يُلْبِسُ، وَمِنْ ثَمَّ جُوِّزَ حَذْفُهَا حَتَّى فِي الْقِرَاءَةِ كَمَا صَحَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ، وَالنَّوَوِيُّ.
(مَنْ شَهِدَ) أَيْ بِلِسَانِهِ مُطَابِقًا لِجَنَانِهِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَالْتَزَمَ جَمِيعَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) وَقَبِلَ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) أَيِ الْخُلُودَ فِيهَا كَالْكُفَّارِ، بَلْ مَآلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ مَعَ الْأَبْرَارِ، وَلَوْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ، وَكَذَا دُخُولُهَا إِنْ مَاتَ مُطِيعًا، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ فَاسِقًا فَهُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ التَّلَفُّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ حُكِيَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا حِكَايَةَ النَّوَوِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْأَوَّلِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَتَقَرَّرَ.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

✩✩✩✩✩✩✩

37 – وَعَنْ عُثْمَانَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

37 – (وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ الْقُرَشِيُّ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ دُخُولِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دَارَ الْأَرْقَمِ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّفَ بِمَرَضِ رُقَيَّةَ بِنْتِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِيهَا بِسَهْمٍ، وَلَمْ يَشْهَدِ الْحُدَيْبِيَةَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ بَعْثَهُ إِلَى مَكَّةَ فِي أَمْرِ الصُّلْحِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْبَيْعَةُ ضَرَبَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَدَهُ عَلَى يَدِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ، وَسُمِّي ذَا النُّورَيْنِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ بِنْتَيْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ.
كَانَ أَبْيَضَ، رَبْعَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، اسْتُخْلِفَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَتَلَهُ الْأَسْوَدُ النَّجِيبِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَقِيلَ: غَيْرُهُ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ السَّبْتِ بِالْبَقِيعِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعُمْرِ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةً سَنَةً إِلَّا أَيَّامًا.
وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ) أَيْ عِلْمًا يَقِينًا سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ وَأَقَرَّ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ وَاكْتَفَى بِالْقَلْبِ، أَوْ جَهِلَ وُجُوبَهُ، أَوْ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ، أَوْ أَتَى بِهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي تَلَفُّظُهُ بِهِ (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَمٌ لِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا (دَخَلَ الْجَنَّةَ) إِمَّا دُخُولًا أَوَّلِيًّا إِنْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَنْبٌ بَعْدَ الْإِيمَانِ، أَوْ أَذْنَبَ وَتَابَ، أَوْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ.
أَوْ دُخُولًا أُخْرَوِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أَوْ مَعْنَاهُ اسْتَحَقَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الْإِحْيَاءِ: مَنْ يُوجَدُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ فَقَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِاللِّسَانِ أَوْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ مَاتَ، فَهَلْ هُوَ مُؤْمِنٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ، فَمَنْ شَرَطَ الْقَوْلَ لِتَمَامِ الْإِيمَانِ يَقُولُ: هَذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ إِذْ قَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» ) وَهَذَا قَلْبُهُ طَافِحٌ بِالْإِيمَانِ، وَمَنْ صَدَّقَ بِالْقَلْبِ وَسَاعَدَهُ الْوَقْتُ لِلنُّطْقِ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَعَلِمَ وُجُوبَهُمَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِمَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ امْتِنَاعُهُ عَنِ النُّطْقِ بِمَنْزِلَةِ امْتِنَاعِهِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ: هُوَ مُؤْمِنٌ غَيْرُ مُخَلَّدٍ فِي النَّارِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إِمَّا شَرْطٌ لِلْإِيمَانِ، أَوْ شَطْرٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ لِلْإِيمَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْإِمَامِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قِيلَ بِكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَوْ عَبَّرَ بِتَرْكِهِ بَدَلَ امْتِنَاعِهِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

pregnancy nutrition

✩✩✩✩✩✩✩

38 – وَعَنْ جَابِرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «ثِنْتَانِ مُوجِبَتَانِ ” قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: ” مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ، وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

38 – (وَعَنْ جَابِرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) هُوَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ، وَأَحَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الرِّوَايَةِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَدِمَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَكُفَّ بَصَرُهُ آخِرَ عُمْرِهِ.
رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلٍ.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثِنْتَانِ) صِفَةُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ خَصْلَتَانِ (مُوجِبَتَانِ) يُقَالُ: أَوْجَبَ الرَّجُلُ إِذَا عَمِلَ مَا يَجِبُ بِهِ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، وَيُقَالُ لِلْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ: مُوجِبَةٌ، فَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْعَمَلِ ( «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُوجِبَتَانِ؟» ) أَيِ السَّبَبَانِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ( «قَالَ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ» ) : فَالْمَوْتُ عَلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ وَخُلُودِهَا ( «وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ) فَالْمَوْتُ عَلَى التَّوْحِيدِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

Success rituals

✩✩✩✩✩✩✩

39 – «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فِي نَفَرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا، وَخَشِيَنَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا، وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ، فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا فَلَمْ أَجِدْ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ – وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ – قَالَ: فَاحْتَفَزْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: ” أَبُو هُرَيْرَةَ؟ ” فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ” مَا شَأْنُكَ؟ ” قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَاءَ الْحَائِطِ، فَقَالَ: ” يَا أَبَا هُرَيْرَةَ “، وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ، فَقَالَ: ” اذْهَبْ بِنَعْلَيْ هَاتَيْنِ، مَنْ لَقِيتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَنِي بِهِمَا؛ مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَخَرَرْتُ لِاسْتِي.
فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَجْهَشْتُ بِالْبُكَاءِ، وَرَكِبَنِي عُمَرُ وَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ “، فَقُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثَتْنِي بِهِ، فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي فَقَالَ: ارْجِعْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” يَا عُمَرُ! مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ ” قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: ” نَعَمْ “.
قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” فَخَلِّهِمْ» ” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

39 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: كُنَّا قُعُودًا) أَيْ ذَوِي قُعُودٍ، أَوْ قَاعِدِينَ (حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) بِالرَّفْعِ (فِي نَفَرٍ) أَيْ مَعَ جَمَاعَةٍ، أَوْ فِي جُمْلَةٍ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – ( «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِنَا» ) : أَظْهُرٌ زَائِدٌ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ مِنْ بَيْنِنَا (فَأَبْطَأَ) : بِالْهَمْزَةِ (عَلَيْنَا) أَيْ مَكَثَ وَتَوَقَّفَ عَنَّا كَثِيرًا (وَخَشِيَنَا) : الْخَشْيَةُ خَوْفٌ مِنْ تَعْظِيمٍ (أَنْ يُقْتَطَعَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ مِنْ أَنْ يُقْتَطَعَ، وَقَوْلُهُ: (دُونَنَا) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي ” يُقْتَطَعَ ” أَيْ خَشِينَا أَنْ يُصَابَ بِمَكْرُوهٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ مُتَجَاوِزًا عَنَّا وَبَعِيدًا مِنَّا، وَفِي الْكَشَّافِ مَعْنَى ” دُونَ ” أَدْنَى مَكَانِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الشَّيْءُ الدُّونُ، وَاسْتُعِيرَ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ وَالرُّتَبِ.
يُقَالُ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ تَجَاوُزِ حَدٍّ إِلَى حَدٍّ (وَفَزِعْنَا) أَيِ اضْطَرَبْنَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطَفَ أَحَدَ الْمُتَرَادِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر: 9] أَيْ كَذَّبُوهُ تَكْذِيبًا غِبَّ تَكْذِيبٍ اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُغَايَرَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْخَشْيَةِ عَلَى خَوْفِ الْبَاطِنِ، وَالْفَزَعِ عَلَى اضْطِرَابِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ لَاسِيَّمَا مَعَ تَغَايُرِ اللَّفْظَيْنِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الزَّايِ، وَفِي نُسْخَةٍ: فَفَزِعْنَا، وَوَجْهُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ أَنَّ الثَّانِيَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ، فَهُوَ سَبَبٌ لَهُ (فَقُمْنَا) أَيْ لِلتَّجَسُّسِ وَالتَّفَحُّصِ (فَكُنْتُ) أَيْ لِكَثْرَةِ خَشْيَتِي عَلَيْهِ (أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ) وَقَامَ لِلطَّلَبِ (فَخَرَجْتُ) أَيْ مِنَ الْمَجْلِسِ (أَبْتَغِي) أَيْ أَطْلُبُ (رَسُولَ اللَّهِ) : أَتَتَبَّعُ أَثَرَهُ وَخَبَرَهُ؛ لِأَعْلَمَ حَقِيقَةَ إِبْطَائِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا) أَيْ بُسْتَانًا لَهُ حِيطَانٌ أَيْ جُدْرَانٌ (لِلْأَنْصَارِ لِبَنِي النَّجَّارِ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ عَامٍّ، أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ أَيْ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِيهِ (فَدُرْتُ بِهِ) أَيْ بِحَوْلِ الْحَائِطِ قَائِلًا فِي نَفْسِي: (هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا؟) أَدْخَلَ مِنْهُ (فَلَمْ أَجِدْ) لَهُ بَابًا (فَإِذَا) : إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ أَيْ فَاجَأَ عَدَمَ وُجُودِي لِلْبَابِ رُؤْيَةُ (رَبِيعٌ) : نَهْرٌ صَغِيرٌ (يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ) أَيْ بُسْتَانٍ آخَرَ إِلَى ذَلِكَ الْحَائِطِ، أَوْ فِي جَوْفِ جِدَارٍ مِنْ جُدْرَانِ ذَلِكَ الْحَائِطِ، مُبْتَدَأٌ، أَوْ مُسْتَمَدُّ ذَلِكَ النَّهْرُ (مِنْ بِئْرٍ) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (خَارِجَةٍ) ضَبَطْنَاهُ بِالتَّنْوِينِ فِي بِئْرٍ وَخَارِجَةٍ، وَعَلَى أَنَّ ” خَارِجَةٍ ” صِفَةٌ لِبِئْرٍ، هَكَذَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ رُوِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالثَّانِي: بِتَنْوِينٍ فِي بِئْرٍ وَهَاءٍ مَضْمُومَةٍ فِي خَارِجِهِ، وَهِيَ هَاءُ ضَمِيرٍ لِلْحَائِطِ أَيِ الْبِئْرُ فِي مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنِ الْحَائِطِ، وَالثَّالِثُ: بِإِضَافَةِ بِئْرٍ إِلَى خَارِجَةٍ، آخِرُهُ تَاءُ الثَّانِي، وَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ الظَّاهِرُ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَقِيلَ: الْبِئْرُ هُنَا الْبُسْتَانُ، سُمِّيَتْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآبَارِ، يَقُولُونَ: بِئْرُ بُضَاعَةَ، وَبِئْرُ خَارِجَةَ، وَهُمَا بُسْتَانَانِ وَالْحَائِطُ هُنَا الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخْلِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ جِدَارٌ.
(وَالرَّبِيعُ: الْجَدْوَلُ) : هَذَا تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (قَالَ) أَبُو هُرَيْرَةَ (فَاحْتَفَزْتُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ بِالزَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَمَعْنَاهُ تَضَامَمْتُ لِيَسَعَنِي الْمَدْخَلُ (فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: (أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَأَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – كَانَ غَائِبًا عَنْ بَشَرِيَّتِهِ بِسَبَبِ إِيحَاءِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنَّهُ هُوَ، وَإِمَّا لِلتَّقْرِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ، وَإِمَّا لِلتَّعَجُّبِ لِاسْتِغْرَابِهِ أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ عَلَيْهِ وَالطُّرُقُ مَسْدُودَةٌ (قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ (قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟) بِالْهَمْزِ، وَيَعْدِلُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ حَالُكَ، وَمَا سَبَبُ مَأْتَاكَ وَاضْطِرَابِكَ؟ (قُلْتُ: كُنْتُ) أَيْ أَنْتَ (بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أَيْ كَانَ ظُهُورُنَا مُسْتَنِدَةً إِلَيْكَ، وَقُلُوبُنَا مُعْتَمِدَةً عَلَيْكَ، وَصُدُورُنَا مُنْشَرِحَةً لَدَيْكَ (فَقُمْتَ) أَيْ عَنَّا (فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا) وَفَتَحْتَ بَابَ الِاضْطِرَابِ لَدَيْنَا (فَخَشِينَا) : عَلَيْكَ أَوَّلًا، وَعَلَيْنَا ثَانِيًا (أَنْ تُقْتَطَعَ) أَيْ يَقْطَعَكَ أَعْدَاؤُكَ عَنْ أَحْبَابِكَ وَتَهْلَكَ (دُونَنَا) أَيْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعِنَا، أَوْ دُونَ أَنْ نَهْلَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ لِأَجْلِكَ (فَفَزِعْنَا) أَيْ لِذَلِكَ، وَتَسَارَعْنَا إِلَى تَعَرُّفِ خَبَرِكَ (فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ) مِنَ الْمُشْتَاقِينَ، وَأَوَّلَ مَنْ قَامَ مِنَ الْخَائِفِينَ (فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ) بِنَاءً عَلَى ظَنِّي أَنَّكَ فِيهِ (فَاحْتَفَزْتُ) لَمَّا لَمْ أَجِدْ لَهُ بَابًا (كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ) فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلَبِ (وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ وَرَائِي) أَيْ يَنْتَظِرُونَ عِلْمَ مَا وَقَعَ لَكَ، وَهُوَ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] (قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) يُقْرَأُ بِالْهَمْزِ وَلَا يُكْتَبُ (وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ) الْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبِشَارَةِ لِلْمُحِبِّينَ (قَالَ) تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ (اذْهَبْ بِنَعْلَيْ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (هَاتَيْنِ) تَأْكِيدٌ لِلتَّنْبِيهِ، وَلَعَلَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – حَصَلَ لَهُ التَّجَلِّي الطُّورِيُّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ النُّورِيِّ فَخَلَعَ النَّعْلَيْنِ، وَأَعْطَى لِأَصْحَابِهِ الْكَوْنَيْنِ، أَوْ إِيمَاءً إِلَى ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَبَذْلِهِمُ الْجُهْدَ فِي السَّعْيِ إِلَيْهِ بِأَقْدَامِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ فَائِدَةَ بِعْثَةِ النَّعْلَيْنِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا بِدُونِ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصَهَا بِالْإِرْسَالِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهُمَا، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ بِعْثَتَهُ وَقُدُومَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَبْشِيرًا وَتَسْهِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ، وَرَفْعًا لِلْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالِاسْتِقَامَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ كَقَوْلِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِهِ، وَأَسْرَارِ أَبْرَارِهِ.
(فَمَنْ لَقِيَكَ) أَيْ رَآكَ أَوْ رَأَيْتَهُ (مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ) : قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ، أَوِ الْمُرَادُ إِيمَانٌ غَيْبِيٌّ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُخْلِصُ عَنِ الْمُنَافِقِ (يَشْهَدُ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : وَيَلْزَمُ مِنْهُ شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (مُسْتَيْقِنًا بِهَا) أَيْ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ (قَلْبُهُ) أَيْ مُنْشَرِحًا بِهَا صَدْرُهُ غَيْرَ شَاكٍّ وَمُتَرَدِّدٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ (فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ) مَعْنَاهُ أَخْبِرْ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذِهِ صِفَتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِلَّا فَأَبُو هُرَيْرَةَ لَا يَعْلَمُ اسْتِيقَانَهُمْ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ لَا يَنْفَعُ دُونَ النُّطْقِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ أَوْ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَلَا النُّطْقَ دُونَ الِاعْتِقَادِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُمَا، غَايَتَهُ أَنَّ النُّطْقَ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّهُ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِعُذْرٍ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَنَفْيُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَالِاسْتِيقَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ كَقَوْلِهِ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي.
(فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ) أَيْ مِنَ النَّاسِ (عُمَرَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ عَلَى الِاسْمِيَّةِ وَ ” أَوَّلُ ” بِالْعَكْسِ، قِيلَ: وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ وَصْفٌ وَهُوَ بِالْخَبَرِيَّةِ أَحْرَى (فَقَالَ) مُبَادِرًا (مَا هَاتَانِ النَّعْلَانِ) أَيْ شَأْنُهُمَا وَخَبَرُهُمَا (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: هَاتَانِ نَعْلَا رَسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَنِي بِهِمَا) حَالَ كَوْنِي قَائِلًا، أَوْ مُبَلِّغًا أَوْ مَأْمُورًا بِأَنَّ (مَنْ لَقِيتُ) أَيْ أَنَا ( «يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَضَرَبَ عُمَرُ» ) لَا بُدَّ هُنَا مِنْ تَقْدِيرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ، يَعْنِي: فَقَالَ عُمَرُ: ارْجِعْ؛ قَصْدًا لِلْمُرَاجَعَةِ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَنَصِّهِ الْمُطَابِقِ لِلصَّوَابِ، فَأَبَيْتُ وَامْتَنَعْتُ عَنْ حُكْمِهِ امْتِثَالًا لِظَاهِرِ أَمْرِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – الْمُقَدَّمِ عَلَى كُلِّ أَمْرِ آمِرٍ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ (بَيْنَ ثَدْيَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ فِي صَدْرِي؛ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ ضَرْبُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ بَاعِثٍ (فَخَرَرْتُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (لِاسْتِي) هَمْزَةُ وَصْلٍ، أَيْ سَقَطْتُ عَلَى مَقْعَدِي مِنْ شِدَّةِ ضَرْبِهِ لِي (فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ) تَأْكِيدًا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: لَيْسَ فِعْلُ عُمَرَ وَمُرَاجَعَتُهُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اعْتِرَاضًا عَلَيْهِ وَرَدًّا لِأَمْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ مَا بَعَثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَّا لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَبُشْرَاهُمْ، فَرَأَى عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ كَتْمَهُ هَذَا أَصْلَحُ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا اهـ.

✩✩✩✩✩✩✩

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، وَرَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ، وَمَظْهَرًا لِلْجَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَطَبِيبًا لِأُمَّتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَمَّا بَلَغَهُ خَوْفَهُمْ وَفَزَعَهُمْ وَاضْطِرَابَهُمْ أَرَادَ مُعَالَجَتَهُمْ بِإِشَارَةِ الْبِشَارَةِ؛ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ وَالنِّذَارَةِ، فَإِنَّ الْمُعَالَجَةَ بِالْأَضْدَادِ، وَلَمَّا كَانَ عُمَرُ مَظْهَرًا لِلْجَلَالِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْخَلْقِ التَّكَاسُلُ وَالِاتِّكَالُ، فَرَأَى أَنَّ الْأَصْلَحَ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ الْمَعْجُونُ الْمُرَكَّبُ، بَلْ غَلَبَةُ الْخَوْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ أَنْسَبُ فَوَافَقَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عَلِيَّةٌ وَمَزِيَّةٌ جَلِيَّةٌ لِعُمْرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَانَ وَجْهُ اسْتِبَاحَةِ عُمَرَ لِذَلِكَ أَنَّهُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ وَالْمُعَلِّمِ، وَلِلشَّيْخِ وَالْمُعَلِّمِ أَنْ يُؤَدِّبَ الْمُتَعَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا رَأَى مِنْهُ خِلَافَ الْأَدَبِ، وَهُوَ هُنَا الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِشَاعَةِ هَذَا الْخَبَرِ قَبْلَ تَفَهُّمِ الْمُرَادِ مِنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ إِشْكَالِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنِ اتِّكَالِ النَّاسِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ حَقُّهُ إِذَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَنْ يَتَفَهَّمَ الْمُرَادَ بِهِ لِيُورِدَهُ فِي مَوَارِدِهِ دُونَ غَيْرِهَا، فَاقْتَضَى اجْتِهَادُ عُمَرَ أَنَّ إِخْلَالَهُ بِذَلِكَ مُقْتَضٍ لِتَأْدِيبِهِ، فَأَدَّبَهُ بِذَلِكَ.
فَتَطْوِيلٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَ كُلَّهُ لَا يُعْقَلُ ضَرْبُهُ ابْتِدَاءً مِنَ الشَّيْخِ الْحَقِيقِيِّ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ أَيْضًا: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عُمَرَ اسْتَبْعَدَ صُدُورَ هَذَا الْعُمُومِ مِنْهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: أَبَعَثْتَ إِلَخْ.
وَنَسَبَهُ إِلَى تَصَرُّفِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَدَّبَهُ لِذَلِكَ – مُسْتَبْعَدٌ غَايَةَ الْبُعْدِ؛ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُوءِ الظَّنِّ، وَعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدِّيَانَاتِ، وَمَعَ هَذَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ ضَرْبُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَنَّ لِلْأَفَاضِلِ مِنَ الْأَتْبَاعِ تَأْدِيبُ مَنْ دُونَهُمْ إِذَا كَانُوا لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ التَّلَامِذَةِ، وَأَنَّ لِلشَّيْخِ أَنْ يُؤَدِّبَ تِلْمِيذَهُ وَلَوْ بِالضَّرْبِ، وَنَقَلَ جَوَازَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِهِ اهـ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ أَوْ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَجْهَشْتُ بِالْبُكَاءِ) وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَالْبُكَاءُ إِمَّا لِشِدَّةِ الْإِيلَامِ أَوْ لِقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ.
وَيُرْوَى ” جَهِشْتُ ” بِكَسْرِ الْهَاءِ وَغَيْرِ هَمْزٍ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَكَلَاهُمَا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَالْجَهْشُ كَالْإِجْهَاشِ أَنْ يَفْزَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى إِنْسَانٍ وَيَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيدُ الْبُكَاءَ كَمَا يَفْزَعُ الصَّبِيُّ إِلَى أُمِّهِ (وَرَكِبَنِي عُمَرُ) أَيْ أَثْقَلَنِي عَدْوُ عُمَرَ مِنْ بَعِيدٍ خَوْفًا وَاسْتِشْعَارًا مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ أَيْ أَثْقَلَتْهُ يَعْنِي تَبِعَنِي عُمَرُ (وَإِذَا هُوَ) أَيْ عُمَرُ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَاءِ، بَيَانٌ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ أَيْ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ (عَلَى أَثَرِي) : فِيهِ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ فَتْحُهُمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَكَسْرُ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونُ الثَّاءِ أَيْ عَقِبِي (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا لَكَ رَجَعْتَ) وَأَيُّ شَيْءٍ رَجَعَ بِكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمُنْكَرَةِ؟ (يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ .
قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقُلْتُ (لَقِيتُ عُمَرَ فَأُخْبِرْتُهُ بِالَّذِي بَعَثَتْنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لِاسْتِي فَقَالَ) أَيْ عُمَرُ (ارْجِعْ، قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ، بِالْفَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟) أَيْ مِنَ الْأَمْرِ بِالرُّجُوعِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّبْلِيغِ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ قِيلَ: هُوَ اسْمٌ تَقْدِيرُهُ أَنْتَ مُفْدًى بِأَبِي، وَقِيلَ فِعْلٌ، أَيْ فَدَيْتُكَ بِأَبِي، وَحُذِفَ هَذَا الْمُقَدَّرُ تَخْفِيفًا؛ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ (أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ؟) وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّحْقِيقِ (مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ مَنْ لَقِيَهُ بَشَّرَهُ (بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ) أَيْ عُمَرُ (فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ، وَيَعْتَمِدُ الْعَامَّةُ عَلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْجَمَالِيَّةِ، وَيَتْرُكُوا الْقِيَامَ بِوَظَائِفَ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الصِّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْخَرِمُ نِظَامُ الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى حَيْثُ أَكْثَرُهُمْ يَقَعُونَ فِي الْمِلَّةِ الْإِبَاحِيَّةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ (فَخَلِّهِمْ) مِنْ غَيْرِ الْبِشَارَةِ (يَعْمَلُونَ) حَالٌ.
فَإِنَّ الْعَوَامَّ إِذَا بُشِّرُوا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ، بِخِلَافِ الْخَوَاصِّ فَإِنَّهُمْ إِذَا بُشِّرُوا يَزِيدُونَ فِي الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَخَلِّهِمْ) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) كَانَ الْمُنَاسِبُ لِدَأْبِهِ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ مُسْلِمٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي الْحَدِيثِ اهْتِمَامُ الْأَتْبَاعِ بِحَالِ مَتْبُوعِهِمْ، وَالِاعْتِنَاءُ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِهِ وَرَفْعِ مَفَاسِدِهِ، وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ الْإِنْسَانِ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ لِمَوَدَّةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَلَ الْحَائِطَ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْقِلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِدُخُولِ الْأَرْضِ بَلْ لَهُ انْتِفَاعٌ بِأَدَوَاتِهِ، وَأَكْلُ طَعَامِهِ، وَالْحَمْلُ مِنْ طَعَامِهِ إِلَى بَيْتِهِ، وَرُكُوبُ دَابَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الطَّعَامَ وَنَحْوَهُ إِلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُشَكُّ فِي رِضَاهُ بِهَا، وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْآخَرِ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، سَوَاءٌ كَانَ الْمُفَدَّى بِهِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، أَوْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا.

You Can Do It

✩✩✩✩✩✩✩

40 – وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ” رَوَاهُ أَحْمَدُ.

40 – (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ) : – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – (قَالَ: قَالَ لِي) فِي قَوْلِهِ: لِي إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ وَحْدَهُ، أَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ (رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ، وَ ” شَهَادَةُ ” خَبَرُهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُطَابَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمِعًى جِيَاعًا جَعَلَ النَّاقَةَ الضَّامِرَةَ مِنَ الْجُوعِ كَأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ مِعَاهَا مِعًى وَاحِدٌ مِنْ شَدَّةِ الْجُوعِ، وَكَذَا جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ الْمُسْتَتْبِعَةُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ كَأَسْنَانِ الْمَفَاتِيحِ، كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ مِفْتَاحٍ وَاحِدٍ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الْجِنْسُ، فَشَهَادَةُ كُلِّ أَحَدٍ مِفْتَاحٌ لِدُخُولِهِ الْجَنَّةَ، إِمَّا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، وَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا هِيَ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَمَرَاتِبِ اللَّذَّاتِ فِي الْوِصَالِ، أَوْ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا كَانَتْ مِفْتَاحُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَكَأَنَّهَا مَفَاتِيحُ، أَوْ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَصْدَرٌ فَهُوَ لِشُمُولِهِ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ يُخْبَرُ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ وَغَيْرِهِ، وَشَبَّهَ الشَّهَادَةِ بِالْمَفَاتِيحِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا سَبَبٌ لِلدُّخُولِ، ثُمَّ حَذَفَ أَدَاةَ التَّشْبِيهِ وَقَلَبَهُ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُشَبَّهِ وَالْمُبَالِغَةِ فِيهِ، وَفِيهِ الِاسْتِغْنَاءُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، إِذْ لَا يُعْتَدُّ بِإِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا مَعَ الْأُخْرَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

Develop Your Financial IQ specific

✩✩✩✩✩✩✩

41 – وَعَنْ عُثْمَانَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: «إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حِينَ تُوُفِّيَ حَزِنُوا عَلَيْهِ، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يُوَسْوِسُ، قَالَ عُثْمَانُ: وَكُنْتُ مِنْهُمْ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ مَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ وَسَلَّمَ، فَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ، فَاشْتَكَى عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – ثُمَّ أَقْبَلَا حَتَّى سَلَّمَا عَلَيَّ جَمِيعًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ أَنْ لَا تَرُدَّ عَلَى أَخِيكَ عُمَرَ سَلَامَهُ؟ قُلْتُ: مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلَى، وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتَ.
قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ أَنَّكَ مَرَرْتَ وَلَا سَلَّمْتَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ عُثْمَانُ، قَدْ شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ أَمْرٌ.
فَقُلْتُ أَجْلَ.
قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ.
فَقُمْتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” مَنْ قَبِلَ مِنِّي الْكَلِمَةَ الَّتِي عَرَضْتُ عَلَى عَمِّي فَرَدَّهَا، فَهِيَ لَهُ نَجَاةٌ» ” رَوَاهُ أَحْمَدُ.

41 – (وَعَنْ عُثْمَانَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رِجَالًا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ: إِنَّ رِجَالًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حِينَ تُوُفِّيَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ مَاضٍ مَجْهُولٌ (حَزِنُوا) : بِكَسْرِ الزَّايِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَوْتِهِ، وَغَيْبَةِ طَلْعَتِهِ، وَفِقْدَانِ حَضْرَتِهِ، وَعَدَمِ وِجْدَانِ إِفَادَتِهِ الْعُلُومَ الظَّاهِرِيَّةَ، وَإِفَاضَتِهِ الْمَعَارِفَ الْبَاطِنِيَّةَ (حَتَّى كَادَ) أَيْ قَارَبَ (بَعْضُهُمْ يُوَسْوِسُ) أَيْ يَقَعُ فِي الْوَسْوَسَةِ بِأَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ انْقِضَاءُ هَذَا الدِّينِ، وَانْقِضَاءُ نُورِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ بِمَوْتِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – وَخُطُورِ هَذَا بِالنُّفُوسِ الْكَامِلَةِ مُهْلِكٌ لَهَا حَتَّى يَتَغَيَّرَ حَالُهُ وَيَخْتَلِطَ كَلَامُهُ، وَيَدْهَشَ فِي أَمْرِهِ، وَيَخْتَلَّ عَقْلُهُ، وَيَجِيءُ أَحْوَالُ بَقِيَّتِهِمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَقْعَدَ وَأَسْكَتَ، وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرَ مَوْتَهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – وَأَظْهَرَ اللَّهُ فَضْلَ الصِّدِّيقِ بِثَبَاتِ قَدَمِ صِدْقِهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَسْوَسَةُ حَدِيثُ النَّفْسِ، وَهُوَ لَازِمٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: يُوَسْوِسُ بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحُ لَحْنٌ (قَالَ عُثْمَانُ: وَكُنْتُ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي اشْتَدَّ حُزْنُهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُوَسْوِسَ، وَيَذْهَلَ عَنِ الْحِسِّ (فَبَيْنَا) أَيْ بَيْنَ أَوْقَاتٍ (أَنَا جَالِسٌ) أَيْ مُتَفَكِّرٌ مُتَحَيِّرٌ (مَرَّ عَلَيَّ عُمَرُ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَشْعُرْ) أَيْ لِشِدَّةِ مَا أَصَابَنِي مِنَ الذُّهُولِ لِذَلِكَ الْهَوْلِ (بِهِ) أَيْ بِمُرُورِهِ أَوْ سَلَامِهِ، أَوْ بِهِمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَاشْتَكَى عُمَرُ) مُعَاتَبَةً (إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ أَقْبَلَا) كِلَاهُمَا (حَتَّى سَلَّمَا عَلَيَّ جَمِيعًا) أَيْ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمَا (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ لَا تَرُدُّ عَلَى أَخِيكَ عُمَرَ سَلَامَهُ؟) أَيْ قَبْلَ ذَلِكَ (فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ) أَيْ مَا وَقَعَ مِنِّي هَذَا الْفِعْلُ، وَهُوَ تَرْكُ رَدِّ السَّلَامِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُعُورِهِ سَلَامَهُ (فَقَالَ عُمَرُ: بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتَ) بِنَاءً عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ (قَالَ) أَيْ عُثْمَانُ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيَضُمُّ، أَيْ مَا عَلِمْتُ، وَلَا فَطِنْتُ (أَنَّكَ مَرَرْتَ) أَيْ بِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَلَا سَلَّمْتَ) كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: مَا شَعَرْتُ أَنَّكَ مَرَرْتَ، وَلَكِنْ جِيءَ بِهِ تَوْكِيدًا أَيْ مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ، وَلَا سَمِعْتُ كَلَامَكَ.
كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ يُمْكِنُ الشُّعُورُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ الشُّعُورُ.
(قَالَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ لِعُمَرَ (صَدَقَ عُثْمَانُ) أَيْ فِي اعْتِذَارِهِ بِعَدَمِ شُعُورِهِ، وَقَالَ لِي عَلَى وَجْهِ الِالْتِفَاتِ: (قَدْ شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنِ الشُّعُورِ (أَمْرٌ) أَيْ عَظِيمٌ (فَقُلْتُ: أَجَلْ) أَيْ نِعْمَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (قَالَ: مَا هُوَ؟) أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ (قُلْتُ تَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ) أَيْ قَبَضَ رُوحَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ) يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْرِ: مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ عَمَّا نَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا الدِّينِ، وَأَنْ يُرَادَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ، وَحُبِّ الدُّنْيَا، وَالتَّهَالُكِ فِيهَا، وَالرُّكُونِ إِلَى شَهَوَاتِهَا، وَرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَتَبِعَاتِهَا، أَيْ نَسْأَلُهُ عَنْ نَجَاةِ هَذَا الْأَمْرِ الْهَائِلِ، وَلَعَمْرِي كَلِمَةُ التَّقْوَى تُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ الْيَقِظَةَ، وَفِي الْقَلْبِ جَلَاءُ الصَّدَأِ وَالرَّيْنِ، وَفِي السِّرِّ مَحْوُ الْأَثَرِ وَالْعَيْنِ، وَلَا يَعْقِلُ ذَلِكَ إِلَّا السَّائِرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَارِفُونَ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أُلْزِمُوهَا، وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ وَأَجَابَنِي (فَقُمْتُ) أَيْ مِنْ كَمَالِ الْفَرَحِ مُتَوَجِّهًا (إِلَيْهِ) وَمُتَمَثِّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ (وَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا) أَيْ بِالْمَسْأَلَةِ وَالسَّبْقِ بِهَا، وَالْبَحْثِ عَنْهَا، فَإِنَّكَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ أَسْبَقُ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجَاةُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَقَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ قَبِلَ مِنِّي) أَيْ بِطَوْعٍ وَرَغْبَةٍ مِنْ غَيْرِ نِفَاقٍ وَرِيبَةٍ (الْكَلِمَةَ الَّتِي عَرَضْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: عَرَضْتُهَا (عَلَى عَمِّي) أَيْ أَبِي طَالِبٍ (فَرَدَّهَا) وَنَزَلَ فِيهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] (فَهِيَ) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ (لَهُ) أَيْ لِمَنْ قَبِلَهَا (نَجَاةُ) وَأَيُّ نَجَاةٍ! فَإِنَّهَا هِدَايَةٌ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِعِنَايَةٍ إِمَّا فِي بِدَايَةٍ أَوْ نِهَايَةٍ، سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مَقْرُونَةً بِحُسْنِ رِعَايَةٍ، فَكَأَنَّهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – يَقُولُ: النَّجَاةُ فِي الْكَلِمَةِ الَّتِي عَرَضْتُهَا عَلَى مِثْلِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ فِي الْكُفْرِ، وَلَوْ قَالَهَا مَرَّةً كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ عِنْدَ اللَّهِ لِاسْتِخْلَاصِهِ، وَنَجَاةٌ لَهُ مِنْ عَذَابِهِ، فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ مَخْلُوطَةٌ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ؟ فَلَوْ صَرَّحَ بِهَا فِي كَلَامِهِ لَمْ يُفَخِّمْ هَذَا التَّفْخِيمَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ عَنِ الصَّحَابِيِّ يَعْنِي عُثْمَانُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

pregnancy nutrition

✩✩✩✩✩✩✩

42 – وَعَنِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ” «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ وَذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا “.
قَلْتُ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» .
رَوَاهُ أَحْمَدُ.

42 – (وَعَنِ الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) هُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ حَالِفَ كِنْدَةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ابْنَ الْأَسْوَدِ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيفُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِهِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَبْدًا فَتَبَنَّاهُ، وَكَانَ سَادِسًا فِي الْإِسْلَامِ.
رَوَى عَنْهُ عَلِيٌّ، وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَمَاتَ بِالْجُرْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً.
(أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ كَلَامَهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ) حَالٌ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ (لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ) أَيْ وَجْهِهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ: إِنَّ وَرَاءَ الصِّينِ قَوْمًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ إِلَى الْآنِ بِعْثَتَهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – (بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ) أَيِ الْمُدُنُ، وَالْقُرَى، وَالْبَوَادِي، وَهُوَ مِنْ وَبَرِ الْإِبِلِ أَيْ شَعَرِهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ مِنْهُ وَمِنْ نَحْوِهِ خِيَامَهُمْ غَالِبًا، وَالْمَدَرُ جَمْعُ مَدَرَةٍ، وَهِيَ اللَّبِنَةُ (إِلَّا أَدْخَلَهُ) فَاعِلُ أَدْخَلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ بِدَلِيلِ تَفْصِيلِهِ بِقَوْلِهِ: إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ (كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ) : مَفْعُولُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ ظَرْفٌ، وَقَوْلُهُ: (بِعِزِّ عَزِيزٍ) حَالٌ، أَيْ أَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَيْتِ مُلْتَبِسَةً بِعِزِّ شَخْصٍ عَزِيزٍ أَيْ يُعِزُّهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ قَبِلَهَا مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ وَقِتَالٍ (وَذُلِّ ذَلِيلٍ) أَيْ أَوْ يُذِلُّهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ أَبَاهَا، وَهُوَ يَشْمَلُ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ، وَالْمَعْنَى يُذِلُّهُ اللَّهُ بِهَا حَيْثُ أَبَاهَا، وَهُوَ يَشْمَلُ الْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ، وَالْمَعْنَى يُذِلُّهُ اللَّهُ بِسَبَبِ إِبَائِهَا بَذُلِّ سَبْيٍ أَوْ قِتَالٍ حَتَّى يَنْقَادَ إِلَيْهَا كَرْهًا أَوْ طَوْعًا، أَوْ يُذْعِنُ لَهَا بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ثُمَّ فَسَّرَ الْعِزَّ وَالذُّلَّ بِقَوْلِهِ: (إِمَّا يُعِزُّهُمْ) أَيْ قُومًا أَعَزُّوا الْكَلِمَةَ بِالْقَبُولِ (فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا) بِالثَّبَاتِ إِلَى الْمَمَاتِ (أَوْ بَذُلِّهِمْ) أَيْ قَوْمًا آخَرِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْكَلِمَةِ وَمَا قَبِلُوهَا، فَكَأَنَّهُمْ أَذَلُّوهَا، فَجُوزُوا بِالْإِذْلَالِ جَزَاءً وِفَاقًا (فَيَدِينُونَ لَهَا) بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يُطِيعُونَ وَيَنْقَادُونَ لَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِسْلَامَ الْحَرْبِيِّ مُكْرَهًا خَشْيَةَ السَّيْفِ صَحِيحٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أَيْ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ، أَوْ مَعَ ضَرْبِ كَفِّ فِي عُنُقٍ، أَوْ لَطْمِ يَدٍ فِي وَجْهٍ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أَيْ أَذِلَّاءُ مُهَانُونَ وَمُحْتَقَرُونَ.
(قُلْتُ) : الْقَائِلُ الْمِقْدَادُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – بَلْ عِنْدَ رِوَايَتِهِ؛ فَلِهَذَا مَا ذُكِرَ لَهُ جَوَابٌ ( «فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْغَلَبَةُ لِدِينِ اللَّهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وَقِيلَ: إِنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَحَلُّ الْكُفْرِ، بَلْ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ إِمَّا بِالطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِمَّا بِالْإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
(رَوَاهُ أَحْمَدُ) : كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ أَحْمَدُ.

ART OF ASKING A LADY OUT

✩✩✩✩✩✩✩

43 – وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ ” لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ” مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فَتَحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يَفْتَحْ لَكَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ.

43 – (وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدِّدَةِ يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيَّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّابِعِينَ (قِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟) أَيِ الْمَقْرُونُ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ لَيْسَ، وَخَبَرُهَا (مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟) وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقُدِّمَ لِشَرَفِهِ (قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ) أَيْ أَقُولُ بِمُوجِبِ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا مِفْتَاحُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَا يَغْتَرُّ أَحَدٌ لِذَلِكَ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْمِفْتَاحُ يُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ حَتَّى يَدْخُلَهَا مَعَ النَّاجِينَ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَتَى بِالْمِفْتَاحِ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ (لَيْسَ مِفْتَاحٌ) أَيْ مِنْ خَشَبٍ، أَوْ حَدِيدٍ (إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ) أَيْ غَالِبًا، أَوْ عَادَةً هِيَ الْفَاتِحَةُ فِي الْحَقِيقَةِ (فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنِيُّ بِهَا الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ أَيِ الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَجُّ، وَقِيلَ: مُطْلَقُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَرْكِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ (فَتَحَ لَكَ) أَيْ أَوَّلًا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَجِئْ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ مِمَّا ذُكِرَ، وَلَوْ فُقِدَتْ مِنْهُ سِنٌّ وَاحِدَةٌ (لَمْ يُفْتَحْ لَكَ) أَيِ ابْتِدَاءً.
وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِيَسْتَقِيمَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، هَذَا وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ التَّشْبِيهَ ظَاهِرُهُ يَأْبَى عَنِ الْقَيْدِ الْأُولَى فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَسْنَانِ إِنَّمَا هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ بِالْوِفَاقِ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ نِفَاقٍ وَانْقِيَادٌ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ كُرْهٍ وَشِقَاقٍ، فَالْكَلِمَةُ حِينَئِذٍ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْأَسْنَانِ تَكُونُ مِفْتَاحًا إِمَّا أَوَّلًا أَوْ آخِرًا عَلَى وَفْقِ الْإِذْنِ مِنَ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ.
(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ بَابٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ الْبَابِ حَدِيثًا مُعَلَّقًا بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، فِيهِ بَيَانُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَيُضِيفُ إِلَيْهِ الْبَابَ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ تَعْلِيقَاتِهِ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ كُرُوِيَ، وَذُكِرَ، وَقِيلَ: فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِمَّا لَا فَلَا.

Multi-Level Affiliate Program Affiliate Program

✩✩✩✩✩✩✩

44 – وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ» “.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

44 – (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ) أَيْ أَجَادَ وَأَخْلَصَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: 112] (فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ) أَيْ: – كَمَا فِي نُسْخَةٍ – (بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً (إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) ” إِلَى ” لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَحْوَالِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ الْإِفْضَالِ، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ.
حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الضِّعْفَ لَا يَتَجَاوَزُ عَنْ سَبْعِمِائَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِمَا فِي مُسْلِمٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ اهـ.
فَالْمُرَادُ بِسَبْعِمِائَةٍ الْكَثْرَةُ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وَالْمُرَادُ هُنَا بِالضِّعْفِ الْمِثْلُ، وَخَصَّ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ: صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخَذْتُ مِنْ هَذَا كَأَحَادِيثَ أُخَرَ أَنَّهَا فِي مَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا يَأْتِي، فَالْعَشَرَةُ لَا يَنْقُصُ عَنْهَا، وَالزِّيَادَةُ لَا مُنْتَهًى لَهَا، وَمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ فَأَكْثَرَ دَرَجَاتٌ بِحَسَبِ كَمَالِ الْأَعْمَالِ، وَمَا يَصْحَبُهَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّاتُهَا أَيْضًا ( «وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا» ) أَيْ كَمِّيَّةً، فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى وَمِنَّةً وَرَحْمَةً، وَإِنْ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ تَتَفَاوَتُ كَيْفِيَّةً لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ، وَمَرَاتِبِ الْعِصْيَانِ (حَتَّى لَقِيَ اللَّهُ) أَيْ إِلَى أَنْ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِيهِ أَوْ يَعْفُو عَنْهُ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وَلَا يَبْعُدُ تَعَلُّقُ حَتَّى بِالْجُمْلَتَيْنِ، وَإِرَادَةُ اللُّقَى بِمَعْنَى الْمَوْتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

✩✩✩✩✩✩✩

45 – وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: ” إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ ; فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ ” قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْإِثْمُ؟ قَالَ: ” إِذَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ» ” رَوَاهُ أَحْمَدُ.

45 – (وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا الْإِيمَانُ؟) أَيْ عَلَامَتُهُ، قَالَ: (إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ) أَيْ إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً وَحَصَلَ لَكَ فَرَحٌ وَمَسَرَّةٌ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَةِ وَإِذَا فَعَلْتَ سَيِّئَةً وَوَقَعَ فِي قَلْبِكَ حُزْنٌ وَمَسَاءَةٌ خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ (فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ) ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَعْتَقِدُ الْمُجَازَاةَ عَلَيْهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُبَالِي بِهِمَا (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْإِثْمُ؟) أَيْ مَا عَلَامَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصٌّ صَرِيحٌ، أَوْ نَقْلٌ صَحِيحٌ، وَاشْتَبَهَ أَمْرُهُ، وَالْتَبَسَ حُكْمُهُ؟ (قَالَ: (إِذَا حَاكَ) أَيْ تَرَدَّدَ (فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ) وَلَمْ يَطْمَئِنَّ بِهِ قَلْبُكَ، وَأَثَّرَ فِيهِ تَأْثِيرًا يُدِيمُ تَنْفِيرًا (فَدَعْهُ) أَيِ اتْرُكْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ) ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْبَابِ الْبَوَاطِنِ الصَّافِيَةِ، وَالْقُلُوبِ الزَّاكِيَةِ، أَوِ الْمَعْنَى: اتْرُكْهُ احْتِيَاطًا إِذَا كَانَ الْأَحْوَطُ تَرْكَهُ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ أَوْلَى فَاتْرُكْ ضِدَّهُ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْإِثْمِ، وَقِيلَ: الْجَوَابَانِ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى السَّيِّدِ السَّنَدُ، فَقَرَأَ ” حَاكَ ” جَاءَكَ، بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِنَ الْمَجِيءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

islamship banner

✩✩✩✩✩✩✩

46 – «وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟ قَالَ: ” حُرٌّ وَعَبْدٌ.
” قُلْتُ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: ” طِيبُ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ “.
قُلْتُ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: ” الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ “.
قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ” مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ “.
قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ” خُلُقٌ حَسَنٌ “.
قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكُ، قَالَ: فَقَلْتُ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ.
قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ السَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ» .
رَوَاهُ أَحْمَدُ.

46 – (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) بِفَتَحَاتٍ كُنْيَتُهُ أَبُو نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: كَانَ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا سَمِعْتَ أَنِّي خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِقَوْمِهِ حَتَّى انْقَضَتْ خَيْبَرُ، فَقَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَعِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ.
رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ جِئْتُهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟) أَيْ مَنْ يُوَافِقُكَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ (قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ) أَيْ كُلُّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَعْنِي مَأْمُورٌ بِالْمُوَافَقَةِ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ وَزَيْدٌ، أَوْ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، وَلَعَلَّ عَلِيًّا – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – لَمْ يُذْكَرْ لِصِغَرِهِ، وَكَذَا خَدِيجَةَ لِسَتْرِهَا وَعَدَمِ ظُهُورِهَا (قُلْتُ: مَا الْإِسْلَامُ؟) أَيْ عَلَامَتُهُ أَوْ شُعَبُهُ أَوْ كَمَالُهُ (قَالَ: طِيبُ الْكَلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ) فِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِظْهَارِ الْإِحْسَانِ لِأَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ بِحَلَاوَةِ اللِّسَانِ (قُلْتُ: مَا الْإِيمَانُ؟) أَيْ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ [قَالَ: (الصَّبْرُ) أَيْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُصِيبَةِ (وَالسَّمَاحَةُ) أَيِ السَّخَاوَةُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْسَانُ وَالْكَرَمُ لِلْفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى الْمَفْقُودِ، وَالسَّمَاحَةُ بِالْمَوْجُودِ (قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ) أَيْ خِصَالُهُ أَوْ أَهْلُهُ، وَهُوَ أَوْلَى (أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) قَالَ: قُلْتُ أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟) أَيْ أَيُّ أَخْلَاقِهِ أَوْ خِصَالِهِ (قَالَ: خُلُقٌ حَسَنٌ) بِضَمِّ اللَّامِ، وَتُسَكَّنُ، وَهُوَ صِفَةٌ جَامِعَةٌ لِلْخِصَالِ السَّنِيَّةِ وَالشَّمَائِلِ الْبَهِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَلِذَا قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَيْ يَأْتَمِرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا خَاتِمَةُ الْمُحَدِّثِينَ وَآخِرُ الْمُجْتَهِدِينَ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَنْ جَدِّ الْحَسَنِ ( «أَنَّ أَحْسَنَ الْحَسَنِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» ) ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْخُلُقُ الْحَسَنُ هُوَ بَسْطُ الْمُسَمَّى بِالْمَحْيَا، وَبَذْلُ النَّدَى وَالْعَطَاءَ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَأَلَّا يُخَاصِمَ لِشِدَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَا قِيلَ: الصُّوفِيُّ لَا يُخَاصِمُ وَلَا يُخَاصَمُ، أَوْ إِرْضَاءُ الْخَلْقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
وَقَالَ سَهْلٌ: أَدْنَاهُ الِاحْتِمَالُ وَتَرْكُ الْمُكَافَأَةِ، وَالرَّحْمَةِ لِلظَّالِمِ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَدْ لَاحَ وَبَانَ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ بِطَوَالِعَ الْوَحْيِ، وَلَوَائِحِ الْوِجْدَانِ أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرُ لُطْفٍ نُورَانِيٌّ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، شَبِيهٌ بِالْجَوَاهِرِ الْقُدْسِيَّةِ الْمَلَكُوتِيَّةِ، وَلَهُ قُوَّتَانِ يَحْظَى بِكَمَالِهِمَا وَيَشْقَى بِسَبَبِ اخْتِلَالِهِمَا؛ قُوَّةٌ عَاقِلَةٌ تُدْرِكُ حَقَائِقَ الْمَوْجُودَاتِ بِأَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا، وَتَنْتَقِلُ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ مَنِ اشْتَغَلَ بِإِبْدَاعِهَا، وَعَامِلَةٌ تُدْرِكُ النَّافِعَ نَافِعًا فَتَمِيلُ إِلَيْهِ وَالضَّارَّ مُضِرًّا فَتَنْفِرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أُمُورٌ مَعَاشِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحِفْظِ النَّوْعِ وَكَمَالِ الْبَدَنِ؛ وَلِذَا وَرَدَ ” خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ، أَوْ مَلَكَاتٍ فَاضِلَةٍ وَأَحْوَالٍ بَاطِنَةٍ هِيَ الْخُلُقُ الْحَسَنُ، وَهُوَ إِمَّا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَأُصُولُهَا عَشَرَةٌ: الطَّعَامُ، وَالْكَلَامُ، وَالْغَضَبُ، وَالْحَسَدُ، وَالْبُخْلُ، وَحُبُّ الْمَالِ، وَالْجَاهُ، وَالْكِبْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالرِّيَاءُ، أَوْ تَحْلِيَتُهَا بِالْفَضَائِلِ، وَأُمَّهَاتُهَا عَشْرَةٌ: التَّوْبَةُ، وَالْخَوْفُ، وَالزُّهْدُ، وَالصَّبْرُ، وَالشُّكْرُ، وَالْإِخْلَاصُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالْمَحَبَّةُ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَذِكْرُ الْمَوْتِ، وَالْخُلُقُ مَلَكَةٌ تَصْدُرُ بِهَا الْأَفْعَالُ عَنِ النَّفْسِ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ رَوِيَّةٍ، وَتَنْقَسِمُ إِلَى فَضِيلَةٍ، هِيَ الْوَسَطُ، وَرَذِيلَةٌ وَهِيَ الْأَطْرَافُ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
(قَالَ: قُلْتُ أَيُّ: الصَّلَاةِ) أَيْ أَيُّ أَرْكَانِهَا، أَوْ كَيْفِيَّاتِهَا (أَفْضَلُ؟) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَفَضْلًا (قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ) أَيِ الْقِيَامُ أَوِ الْقِرَاءَةُ أَوِ الْخُشُوعُ (قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الْهِجْرَةِ) أَيْ أَفْرَادِهَا (أَفْضَلُ؟) فَإِنَّ الْهِجْرَةَ أَنْوَاعٌ: إِلَى الْحَبَشَةِ عِنْدَ إِيذَاءِ الْكُفَّارِ لِلصَّحَابَةَ، وَمِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنْ مَعْنَاهُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهِجْرَةُ الْقَبَائِلِ لِتَعَلُّمِ الْمَسَائِلِ مِنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَالْهِجْرَةُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ الْأَعَمُّ الْأَشْمَلُ (قَالَ: فَقُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَلْتُ: (فَأَيُّ الْجِهَادِ) أَيْ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَهْلِهِ (أَفْضَلُ؟ قَالَ: (مَنْ عُقِرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (جَوَادُهُ) أَيْ قُتِلَ فَرَسُهُ (وَأُهْرِيقَ دَمُهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقِيلَ بِفَتْحِهَا وَهُوَ وَهْمٌ، أَيْ صُبَّ وَسُكِبَ، يُقَالُ: أَرَاقَ يُرِيقُ، وَهَرَاقَ يُهَرِيقُ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ هَاءً، وَأَهْرَاقَ يُهَرِيقُ بِزِيَادَتِهَا كَمَا زِيدَتِ السِّينُ فِي اسْتَطَاعَ، وَالْهَاءُ فِي مُضَارِعِ الْأَوَّلِ مُحَرِّكَةٌ، وَفِي مُضَارِعِ الثَّانِي مُسَكَّنَةٌ كَذَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفَائِقِ.

golf336

✩✩✩✩✩✩✩

وَقَالَ الْحِجَازِيُّ فِي حَاشِيَةِ الشِّفَاءِ: لَا تُفْتَحُ الْهَاءُ مَعَ الْهَمْزَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجِهَادُ أَفْضَلَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْجِهَادَيْنِ؛ جِهَادُ فَارِسٍ وَجِهَادُ رَاجِلٍ، أَوْ لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالشَّهَادَةِ فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاهُ (قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ السَّاعَاتِ) أَيْ لِتَحْصِيلِ الطَّاعَاتِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (جَوْفُ اللَّيْلِ) أَيْ وَسَطُهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّفَاءِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ (الْآخَرُ) صِفَةُ جَوْفٍ أَيِ النِّصْفُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَأَخْلَى مِنَ الْخَلْقِ، وَأَقْرَبُ إِلَى تَنَزُّلِ رَحْمَةِ الْحَقِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

✩✩✩✩✩✩✩

47 – وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ” «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيُصَلِّي الْخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ – غُفِرَ لَهُ “.
قُلْتُ: أَفَلَا أُبَشِّرُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ” دَعْهُمْ يَعْمَلُوا» ” رَوَاهُ أَحْمَدُ.

islamship banner

47 – (وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: (مَنْ لَقِيَ اللَّهَ) يَعْنِي: مَنْ مَاتَ (لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) أَيْ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا أَيْ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُشْرِكٍ يَعْنِي يَكُونُ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا (وَيُصَلِّي الْخَمْسَ) أَيْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ لِرَكَعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ، مَقْرُونَةً بِشَرَائِطَ وَأَرْكَانٍ مَعْلُومَاتٍ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ) أَيْ شَهْرٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ وَالْحَجَّ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالْأَغْنِيَاءِ، أَوْ كَانَ قَبْلَ فَرْضِيَّتِهِمَا (غُفِرَ لَهُ) أَيْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي بَيْنَ كُلِّ صَلَاةِ وَصَلَاةِ، وَكُلِّ صَوْمٍ وَصَوْمٍ، أَوِ الْكَبَائِرَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُرْضِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ (قُلْتُ) ذَكَرْتُ ذَلِكَ (أَفَلَا أُبَشِّرُهُمْ) أَيْ عُمُومَ النَّاسِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) حَتَّى يَفْرَحُوا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ (قَالَ: (دَعْهُمْ) أَيِ اتْرُكْهُمْ بِلَا بِشَارَةٍ (يَعْمَلُوا) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، أَيْ يَجْتَهِدُوا فِي زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا يَتَّكِلُوا عَلَى هَذَا الْإِجْمَالِ، وَلَا يَرْتَكِبُوا مِنْ قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ، فَإِنَّ هَذَا دَأَبُ الْعَوَامِّ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الْخَوَاصِّ وَأَصْحَابِ الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَوْ فُرِضَ وَقُدِّرَ أَنْ لَيْسَ هُنَاكَ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ مَا عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى سَاعَةً فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: ( «رَحِمَ اللَّهُ صُهَيْبًا، لَوْ لَمْ يَخِفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ» ) .
بَلْ يَزِيدُونَ فِي الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْبِشَارَةِ شُكْرًا لِهَذِهِ الْإِشَارَةِ، وَيَخَافُونَ أَنَّ الْبِشَارَةَ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَطْوِيٍّ تَحْتَ الْعِبَارَةِ امْتِحَانًا مِنْ رَبِّ الْعِبَادِ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

✩✩✩✩✩✩✩

Nikahdating Advert

48 – وَعَنْهُ أَنَّهُ «سَأَلَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ؟ قَالَ: ” أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ، وَتُبْغِضَ لِلَّهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ “.
قَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ” أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ» ” رَوَاهُ أَحْمَدُ.

48 – (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ مُعَاذٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – ( «أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ؟» ) أَيْ عَنْ شُعَبِهِ، وَمَرَاتِبِهِ، وَأَحْوَالِهِ، أَوْ خِصَالِ أَهْلِهِ (قَالَ: (أَنْ تُحِبَّ) أَيْ كُلُّ مَا تُحِبُّهُ (لِلَّهِ) لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ (وَتُبْغِضُ) أَيْ مَبْغُوضُكَ (لِلَّهِ) لَا لِطَبْعٍ وَهَوًى (وَتَعْمَلُ) مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَعْنَى الِاسْتِعْمَالِ وَالْإِشْغَالِ (لِسَانَكَ) لِيَصِلَ بَرَكَتُهُ إِلَى جَنَانِكَ (فِي ذِكْرِ اللَّهِ) بِأَنْ لَا يَزَالَ رَطْبًا بِهِ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، فَيَكُونُ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَإِلَّا فَاشْتِغَالُ عُضْوٍ بِالْعِبَادَةِ نَوْعٌ مِنَ الْعِنَايَةِ، وَمَنْ شَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ حَصَلَ لَهُ مَزِيدُ الرِّعَايَةِ (قَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَيْ وَمَاذَا أَصْنَعُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَمَاذَا إِمَّا مَنْصُوبٌ بِأَصْنَعُ، أَوْ مَرْفُوعٌ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَصْنَعُهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مَقُولُ (قَالَ: (وَأَنْ تُحِبَّ) يَكُونُ مَنْصُوبًا، وَعَلَى الثَّانِي مَرْفُوعًا، وَالْوَاوُ لِلْعِطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى مَا قُلْنَا، وَأَنْ تُحِبَّ (لِلنَّاسِ) يُحْتَمَلُ التَّعْمِيمُ، وَيُحْتَمَلُ التَّخْصِيصُ بِالْمُؤْمِنِينَ (مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ) أَيْ مِثْلَهُ (وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

✩✩✩✩✩✩✩

Visits: 0

Success rituals

Leave a Comment

 
Scroll to Top